وقبل ما يقرب من شهرين، وصلت هذه "الرياض" العزيزة الغالية في هزيع الليل الأخيرة. اعتذرت عن ضيافتي بضعة فنادق، قبل أن يقبلني بعيد الفجر فندق أعطاني آخر غرفة فارغة. صحوت ضحى ذلك اليوم لأكتشف أنها الغرفة الفندقية ذاتها التي قد لا يقبل بها أصحاب القلوب المرهفة والعيون الدامعة. فتحت الستارة. هنا كل ما يلي: إلى يمين عيني اليمنى مبنى المديرية العامة للمخدرات حيث المنظر الحزين الكئيب لشباب ناشئ غض وهم يدخلون من البوابة مكبلة أيديهم إلى غرف الاتهام والتحقيق، وإلى يسار عيني اليسار جلست لسويعات وأنا أراقب بحزن ودمع أرتال شبابنا وهم يخرجون مكبلي الأرجل في "زرافات" متتالية ثم يركبون خارجين من المبنى الضخم لهيئة التحقيق والادعاء العام بمنطقة الرياض، مستقلين في سيارات الأمن المختلفة. بعضهم في سيارات السجن وآخرون إلى المحكمة وفريق ثالث إلى ساحات العقوبة. كل هذا المنظر المؤلم الكئيب يحدث أمامي لثلاثة أيام من خراج مبنيين متجاورين أراقبه من نافذة غرفة فندقية فأين يكمن السبب؟
إنه التعليم وفصوله ومناهجه، لو كان أمام مئات هؤلاء الشباب نظام تعليمي متطور لما احتجنا لهذه المناظر المؤسفة الحزينة الباكية وهؤلاء المراهقين يساقون مكبلي الأيدي والأرجل ما بين عمارتين: إدارة المخدرات وهيئة التحقيق، لو كان هؤلاء الضحايا يذهبون إلى فصول دراسية في المعدل الطبيعي من 18 طالبا في الفصل وسبع مواد في الأسبوع الواحد، ونحن قادرون تماما على ذلك، لما احتجنا إلى شراء سلاسل أمنية. لكننا نحشرهم في فصول من علب السردين في فصول ضيقة ومناهج من الحشو لما بين 40 طالبا في الغرفة الواحدة ثم ندعوهم للمستقبل وللتعليم في فراغات هندسية لا يصل فيها نصيب الطالب من فصله سوى إلى أقل من نصف متر مربع في سبع ساعات في اليوم الواحد. هذه الهزيمة التربوية تتناقض مع المنهج الدراسي للشاب ذاته الذي يدرس مساحة بلده الواسع العظيم ثم يجد نفسه لسبع ساعات محشورا في نصف متر مربع في المدرسة ذاتها. خذوا أخيراً هذه المعلومة للمقاربة: تقول أرقام المركز الوطني للقياس واختبارات التعليم أن الفوارق في النتائج ما بين الاختبار الأول لطالب الثانوية وما بين الفرصة الرابعة لا تتجاوز نسبة موجبة تصل إلى 1.8% من القدرة على تحسين درجة القياس في أربع فرص. قراءة هذا الرقم المخيف من أرقام مركز وطني إحصائي بياني معتمد لا تعني سوى أن مئات الآلاف من شبابنا يذهبون إلى مدارسهم الثانوية خلال عامين متتاليين دون فوارق تذكر، فماذا كانت تفعل بهم آلاف الحصص السنوية خلال عامين؟ الجواب في "قياس" المخرج: صفر مكعب مربع، الجواب الأخير في هذه الصورة البانورامية التي شاهدتها بكل الحزن ما بين جوار إدارتين. إنه التعليم ولا شيء غيره.