ما إن تحصل الحروب في الأوطان حتى تبرز أسئلتها في كل الاتجاهات: الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، ولكن أهم سؤال يمكن أن يبرز هو سؤال المواطنة الذي هو ينفتح على الأسئلة السابقة كافة، ولا يتوقف عند حد المشاركة السياسية في أي حرب من الحروب إنما يذهب إلى ما بعد تلك الحروب من أسئلة.
الحروب الدائرة في العالم العربي هي حروب وطنية، أو هي بالأحرى حروب هويات طائفية أو عشائرية أو حزبية، كلها تتزيّا بزيّ الوطن والخوف على مصلحته كما يحاول المحاربون الترويج له. في العراق وسورية تبرز تلك الحروب مثالا على ما قلنا، واليمن كذلك بعد انقضاض الحوثيين بوصفهم عشيرة داخل طائفة ومجموعة ميليشيات أرادت الهيمنة على بقية الفصائل والعشائر والمذاهب اليمينة، بمعنى أنها هوية تريد الهيمنة على هويات أخرى، وهذا ما يعيد مفهوم المواطنة في الحروب إلى الظهور من جديد، فتعدد الهويات والاقتتال عليها أحد الإشكالات التي تضطرب في مفهوم المواطنة ومفهوم القابلية للاختلاف.
تظهر داخل مفهوم المواطنة عدد من المفاهيم التي لا بد أن تكون حاضرة لتشكل مفهوم المواطنة الهم بحيث تصبح أحد أسئلته التي لا بد أن تطرح ويأتي مفهوم التعايش كأكثر تلك الأسئلة حضورا من أي شيء آخر، ليس لكونه مفهوما غير مدرك على المستوى الثقافي والفكري والسياسي، بل بوصفه مفهوما يحتاج إلى تطبيق على أرض الواقع تطبيقا ينقله من حيز الفكر النخبوي التنظيري إلى ممارسة حياتية يومية معاشة، فاقتتال الهويات هو بسبب عدم تعايشها واختلافها هنا كان اختلافا قاتلا وليس اختلافا محمودا أو مثريا كما هو عند غيرهم من الدول الأخرى، ذلك أن أصل العلاقة المجتمعية هي علاقة اختلاف وتعايش أكثر منها اختلافا مباينا، أو هكذا يجب أن تكون على المنظور السياسي/ الاجتماعي. تبرز الاختلافات الفكرية والأيديولوجية في المجتمع على اعتبار أنه اختلاف إشكالي مباعد بين الأطياف، وهي مشكلة حقيقية في مفهوم هذا الاختلاف الذي هو طبيعة المجتمعات البشرية على مختلف مكوناتها الدينية والفكرية.
في الأزمات السياسية، والحروب أحد أكبر تلك الأزمات على الإطلاق، لا نجد لهذا المفهوم وضوحا إلا كونه مفهوما وطنيا نظريا دون طرح مفهوم الاختلاف والتعايش وتحقيقه على المستوى الشخصي فضلا عن المستوى السياسي بين الأطياف المتناحرة، بل يتم تأجيل الفكرة بشكل متواصل يجعل منها مشكلة ممتدة لا تتوقف عند حد ما يجعل تلك الحروب ممتدة ذات كوارث حقيقية على الدول وعلى المجتمع البسيط.
قبل الأزمات السياسية كانت بعض المجتمعات تعطي انطباعا في قبول ذلك الاختلاف والتعايش، لكنه على المستوى التطبيقي خارج إطار العمل، إذ تعود الأمور كما كانت في مفهوم التعايش الوطني، أي أن ذلك المفهوم غائب تطبيقيا مما سهل ارتفاع وتيرة الأزمات السياسية إلى أعلى ذروتها وافتراق أصدقاء الأمس بسبب من تكريس تغييب الهوية المختلفة وعدم قبولها كمكوّن أساسي من مكونات الأوطان.
المكون الوطني الذي يجمع الناس على مختلف مشاربهم الفكرية والمناطقية والطائفية وغيرها تحت كيان واحد هو إحدى آليات استقرار الدول، وعلى رغم الاهتمام الواسع في إبراز تلك المفاهيم في كل مكان إلا أن مفهوم المواطنة قد يغيب في تأصيله المعاش في اليومي من الحياة، والدليل تزايد النظرة إلى الاختلاف باعتباره غير محمود، وتغييب هذا الاختلاف بوصفه اختلافا غير مرغوب فيه يبرز ذلك في رفض الاختلاف الفكري والطائفية من قبل غالبية المجتمع، الرفض الذي يعني رفضا لهذا التعايش الوطني في حقيقته، مما أدى إلى صراع الهويات رغم تعايشها الطويل، إذ إن خارطة الأوطان العربية ديموجرافيا وجغرافيا، وحتى تاريخيا، تظهر العديد من الاختلافات الفكرية والمناطقية والثقافية والطائفية لتشكل وطنا واحدا تجمعه المشاركة الإنسانية عليه قبل أي شيء آخر. فما بين الاختلاف الثقافي والاجتماعي بين طيات الشعوب العربية يظهر كثير من الاختلافات الفكرية كالإسلامية والليبرالية والقومية، إضافة إلى الاختلاف الطائفي بين سنة بمختلف مذاهبها وشيعية بمختلف مذاهبها أيضا. والسؤال الذي يبدو حاضرا في حروب اليمن هو: لماذا أدى الاختلاف إلى الصراع وليس إلى مفهوم المواطنة والتعايش؟
برأيي أن الإجابة ستقودنا إلى المشكلات السياسية التي تحملها بعض الدول، حيث تعزز فكرة الطائفية رغم أن الحرب سياسية في أساسها، مما أشعل المنطقة في حروب طويلة لم تقف عند حد.
كان من المفترض أن يكون الاختلاف ثراء فكريا واجتماعيا، وهذا الاختلاف ليس في الأخير إلا معطى من المعطيات الوطنية التي يمكن أن يتكئ عليها أي مجتمع للنهوض الفكري والسياسي، وهنا تبرز أهمية تحقيق التواصل الاجتماعي بين أبناء المجتمع الواحد من خلال تأصيل هذا الاختلاف تأصيلا يحقق التعايش الذي هو في الأخير من أهم مبادئ المواطنة، على اعتبار أن الاختلاف مكون ثقافي لهذا الوطن. لكن الواقع مختلف تماما عن طموحاتنا، فغياب مفهوم التعايش في تغييب قابلية الاختلاف، وتغييب ظهورها وتأجيله في كل مرة يعيد التساؤل حول حقيقة هذه المواطنة على أرض الواقع الفعلي لكثير من الدول العربية، فعلى رغم أهمية استشعار المعنيين بالأمر في البلاد العربية، على اختلاف سياساتها، إلا أن استظهار المواطنة لم يكن استشعارا حقيقيا لأهمية التركيز عليه كمقوم وطني، بل تم التركيز عليه كورقة سياسية يمكن التلاعب بها متى ما احتاج السياسيون ذلك.
لقد كان اللعب على ورقة الهويات المختلفة مدمرا للشعوب العربية ومدمرا لسياساتها واستقرار الدول. لقد دفعت الأوطان العربية فاتورة كبيرة من دماء الضحايا التي كانت حروب الهويات سببها ولا يمكن العودة إلى طرح أسئلة المواطنة مع وجود كل هذه الدماء ما لم تتوقف شلالات الدم قبل أي تحرك آخر نحو الأسئلة المحرجة للعقل العربي.