ليسامحني قرائي الكرام في أن يكون مقالي هذا أيضا في موضوع المقال السابق نفسه، مع اختلاف في الشخصيات.. اليوم أكتب ناعيا وراثيا فضيلة السيد عباس بن علوي بن عباس مالكي، الذي فقدته مكة المكرمة، وخارجها قبيل فجر الثلاثاء الماضي.. خبر الوفاة الذي انتشر سريعا كان صادما بلا شك، لا سيما وأن الفقيد لم يكن يشكو من مقدمات، سوى عملية توسيع لشرايين القلب وأوردته، بعد أن احتاج إليها وهو على مشارف السبعين، وأجريت له قبل أسبوعين، وتكللت بالنجاح التام، حتى أن كل من رآه في الأيام الأخيرة لم يصدق وهو يرى نشاطه أنه كان تحت مبضع الجراح، ولكنها أمنيته القديمة ـ رحمه الله ـ في أن تكون موتته خفيفة، وهكذا كانت، وهكذا قدرها الحي الذي لا يموت، سبحانه وتعالى.
سيدي عباس ـ كما كنت أناديه ـ عرفته حضرا وسفرا منذ عقود، ومجال الكتابة هنا لا يسع للتنويه عن كل الذكريات، خصوصا وأن تفاصيلها كثيرة.. الفقيد الراحل أشهد أنه كان مميزا جدا في علاقته بوالدته الشريفة فاطمة بنت عبدالوهاب بغدادي، وكان وفيا في تواصله مع شقيقه، شيخي السيد محمد ـ رحم الله الجميع ـ، يومه العادي لا يمر دون زيارتهما مرتين؛ قبل الظهر، وبعد العشاء، وزيارة قبل الظهر كانت تتخللها حصة علمية بينه وبين أخيه، وكانت تظهر أن السيد عباس كان يخفي على الناس كثيرا تمكنه من العلوم الشرعية، وخاصة اللغة وصنوف الأدب والفقه المالكي.
مكة المكرمة عند السيد عباس موضوع لا يقبل القسمة ـ كما يقولون ـ على اثنين، كان يرفض تماما أن ينال أحد من قيمتها، أو قيمة علمائها، ولا يقبل مقارنتهم بأحد.. الوطن عنده له قيمة عليا، وصورة خادم الحرمين الملك سلمان ـ حفظه الله ـ في صدر مقره العلمي، ودعاؤه لولي الأمر لا ينقطع.. السيد عباس كلفته صراحته المتناهية، وكلفه حرصه الدؤوب بعض المتاعب مع الذين من حوله؛ فقد كان مشهورا بعدم رضاه عن الخطأ، وحبه للقيم الفاضلة التي تربى عليها الأوائل، وكان عاشقا لضبط الأمور، وعدم ترك أي مجال لتفلتها.. كان ـ رحمه الله ـ عفيفا، وصاحب يد معطاءة مع الفقراء والمساكين، وخصوصا من طلبة العلم الشريف، وكان متميزا ببعد نظره، واستشرافه الذي قل ما يجانبه الصواب، وتفرغ كثيرا للإصلاح بين الناس، ولا أعرفه منسحبا عن المواقف الرجولية أبدا.
السيد عباس، ابن العالم، وشقيق العالم، كان حلمه الكبير أن يظل بيت المالكي، بيتا لنشر العلم والمعرفة، وقد اجتهد كثيرا في تحقيق هذا الحلم بتربية أبنائه وبناته، وبفضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ قرت عيناه في حياته وهو يرى أبناء الأسرة السادة: عاصم بن عباس يدرس اللغة العربية في مجلسه، وعلوي بن عباس يدرس مؤلفات جده، وأحمد بن محمد يقتعد باقتدار مقعد والده في درسه، يدرس كتبه، وعبدالله بن محمد يعاضده، وعمرو بن عباس يخلفه في الإنشاد، وسعيد بن عباس يتخرج من قسم الشريعة، وعلوي وعلي والحسن والحسين أبناء السيد محمد يكملون المسيرة المباركة لآبائهم، وأجدادهم.. اليوم يرحل عنا السيد عباس وقد قلد المنن في رقاب الرجال تعليما وتربية، وشنف آذانهم بالإنشاد المتميز بالإرشاد.. أسأل الله تعالى أن يضاعف رحماته عليه، وأن يجازيه عن كل ما قدم كل خير.