حينما تصبح الحياة بكل تفاصيلها عارية ترقُبها من نوافذ عينيك وتراها بتجرّد إنساني بحت سيعتريك شعورٌ بحقيقة أننا سائرون إلى أشياء لا نعرف ما وراءها، أوجدنا هالتها وأسرفنا في تعظيمها حتى صرنا أسرى للركض خلفها وتجاوزنا إنسانيتنا لاهثين خلف العدم حتى تصحّرت أرواحنا تذروها حبّات الرمال التي تتطاير من تدافعنا حول ذلك اللاشيء في حقيقته.

اختلطت الغايات بالوسائل والحقيقة بالوهم والبداية بالنهاية، وكل شيء آفل وستبقى أنت أيها الإنسان تلبس عقلك الذي لم تدرك أهميته بعد، نحنُ خلقنا لنكون أناسي تهب الوجود عقلها وتعمل على سبر أغوار هذا الكون الفسيح بالعلوم والمعرفة، حالك أيها المخلوق الإنساني كحال الريح والأشجار والحشرات والشمس والقمر والكواكب، نحن جزء من هذه المنظومة العظيمة الربّانية، ولكننا كُرمّنا بذلك العقل الذي سيهدينا إلى تسخير كل هذه المخلوقات لنستفيد منها، وتأتي بعد ذلك الآية العظيمة "وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً".

فلسفة وجودنا.. إيماننا العظيم بعظمة خالق وجودنا، لذلك نحن نبني ونشيّد حضارة وبروجاً قد لا يُمهلك القدر لتسكنها!

هي إرادة البناء إذًا، عجباً لحالك أيها الإنسان المتخم بالضعف تتجاهل أنك مخلوق يسير بكون عظيم يصرفك الشيطان إلى أدوات الشرّ فيملأك بوهم التضخم والجبروت فتطغى وتُعدم إنسانيتك وهويّتك الحقيقية التي ابتعدت عنها، لذلك عبر كل التاريخ البشري النُبلاء ومن تشبثّ بإنسانيته لم يستطع الشيطان أن يغويهم ويهوي بهم في جحيم السوء والبشاعة، الآن وبعد أن ابتعدت أيها الإنسان عن إنسانيتك التي وجدت لتكون صوتاً لها غاب صوتك واستبدلته بلغة الرصاص والطغيان وهوس السلطة وحروب الأديان والطائفية وبنادق الهويّة التي يصوبها الآخر لذلك الآخر البعيد، ما يجري نُذر شؤم قادرة على دعوة اليأس إلى ظلام حالك لا يعبره ضوء.

الحياة لن تكتمل دورتها وتتعاقب كما تتعاقب الشمس الغاربة خلف مساء جميل حتى نؤمن بأن رابط إنسانيتنا هو الميثاق المقدّس الذي أمرنا به ربّ الوجود الرحمن الرحيم، حين تتسرّب الرحمة إلى أرواحنا كما تنساب مياه الأمطار من المزاريب فوق الأسطح سيصبح لأيامنا قيمة وسنسمو ونحب ونغنّي ونملأ الأرجاء ضياءً، الإنسانية سماء قادرة على استيعابنا جميعاً.