أصبحت إمكانية العيش المشترك بين السوريين المطالبين بالحرية والسوريين المؤيدين لنظام الأسد حلما صعب التحقق كما يعتقد البعض، وبين "سنتهم" و"علويتهم" على وجه الخصوص برأي هذا "البعض" أيضا.
الاعتقاد وَلّدَ لدى كثيرين نبوءات وتوقعات جادة بإمكانية تقسيم سورية وتحولها إلى دويلات طائفية متفرقة، متجاورة، متخاصمة أو متفاهمة ديبلوماسيا وفق ما تقتضيه مصالحها كـ"دول" ذات سيادات طائفية محلية، تدار من حكام تنتخبهم هذه "الطوائف الدول"، وفي أكثر السيناريوهات تفاؤلا رأى "المتنبئون" الأشاوس أن المهرب الوحيد من هذا المصير يكمن في تشكيل حكومة اتحادية أو دولة فيدرالية سورية تُقتَسم فيها السلطات والسيادة بين حكومة مركزية نسبيا وأقاليم ذات إدارة ذاتية خاضعة بمجملها لدستور متفق عليه.
إذا ما بدأنا بالنظر إلى القسم المليء من الكأس، من وجهة نظر البعض، لوجدنا أن سيناريو الفيدرالية غير قابل للتطبيق في سورية لعدم استجابته أصلا للشروط الواجبة: "وجود دول عدة وثيقة الارتباط ببعضها محليا وتاريخيا وعرقيا أو ما شابه، يجعلها قادرة على أن تحمل -في نظر سكانها- هوية وطنية مشتركة، والرغبة الوطنية في الوحدة الوطنية والتصميم على المحافظة على استقلال كل دولة في الاتحاد".
فالشرط الأول ليس ناجزا ومؤهل للفشل الذريع، رغم الاعتقاد والترويج من هذا البعض نفسه بسهولة صوغه على قياس الأمنيات أو صوغ الأرض والخصوصية السورية على قياسه لعدة أسباب: أولها أن سورية دولة واحدة وليست مجموعة دول كما تتطلب الفيدرالية، ثانيها أن البنية الجغرافية ذات المساحات الشاسعة المترامية الأطراف التي تستدعي الحكم الاتحادي غير متوافرة في بلد يمكن السفر فيه من درعا أقصى الجنوب إلى حلب أقصى الشمال خلال خمس ساعات بالسيارة ونصف ساعة بالطائرة، وثالثها أن البنى الفكرية والثقافية والاجتماعية والقيمية الراهنة للسوريين لا تشكل تربة صالحة للزرع الفيدرالي القائم على مركزية الأقاليم، بسبب الانقسام الحاد بين السوريين المؤيدين لنظام الأسد وبين المعارضين له من جهة، وبين المتدينين المعتدلين والمتدينين المتشددين الراغبين بدولة الخلافة من جهة أخرى، وأيضا الخلل العلائقي والتشوه في مفاهيم المواطنة والدولة الحديثة الناتج كبقية العوامل الأخرى عن عنف النظام واستبداده قبل وبعد الثورة، ما يجعل سورية اليوم بحاجة ماسة إلى سلطة مركزية ديموقراطية تضبط الشارع الخارج عن سيطرة الدولة بمعناها المؤسساتي المدني لا الاستخباراتي القمعي، وتعيد تأهيل وتشكيل الوعي السوري اللازم للخروج من حالة الفوضى والخراب النفسي، والمؤدي بطبيعة الحال بعد إصلاحه إلى إحياء فرص خلق عقد اجتماعي مدني قابل للحياة.
ماذا عن سيناريو التقسيم، هل هو ممكن؟
قالت العرب قديما: "المستحيلات الثلاث: الغول والعنقاء والخل الوفي"، إذن لا وجود لمستحيل خارج هذه الثلاثية، ومن هنا يبدو هذا المخطط متاحا لكن بصعوبة بالغة.
وفي الدرس اللبناني عبرة لمن اعتبر، فلبنان الصغير المساحة، القائم على طوائف كثيرة متناحرة تكاد تتجمع في "كانتونات" متفرقة، كخاصرة هشة للوطن العربي تؤهله ليكون صيدا للتقسيم والأطماع الغربية، خرج منتصرا، على الأقل، فيما يتعلق بوحدة ترابه ودولته، متجاوزا حربه الأهلية الدامية التي دامت لسنوات ورافضا محاولات تفتيته من أميركا وإسرائيل بشكل رئيس، وها هي المارونية السياسية التي حلمت بها إسرائيل وبشر بها (موشي شاريت) وزير الخارجية الإسرائيلي في الخمسينات تسقط لصالح لبنان العربي الموحد، فما بالكم بسورية العربية ذات النزعة القومية المتجذرة والموقع الاستراتيجي الخاص والعمق التاريخي المشهود له في استقطاب ودمج كافة الحضارات والإثنيات والأديان والطوائف، والتي تسكن مع بعضها البعض حتى اليوم في المدينة أو القرية الواحدة، ما يجعل مشروع إقامة دويلات طائفية أمرا شبه مستحيل ويحتاج إلى نسف كلي للديموجرافيا السورية الحالية لصالح فرز سكاني غير ممكن على الأرض إلا إذا قرر كل أبناء (اللاذقية) "السنة" مغادرتها كليا ونسيان بحرها ومسقط رأسهم، وكل "علويي" (حماة) السكن في اللاذقية ونسيان مصايفها وجبالها وهوائها المنعش، وكل مسيحيي دمشق وحلب النزوح إلى معلولا ومحو أي أثر لذكرياتهم في "باب توما" و"الحميدية" و"بلودان" و"القلعة".
لا ننسى أيضا التجربة السورية في التقسيم إبان الاحتلال الفرنسي والتي فشلت فشلا مدويا، حين ثار السوريون في الدويلات السورية المصطنعة طائفيا وأسقطوا المشروع الغربي دون أن ننكر أن بعض الأصوات وبينها بضعة "علويين" رغبت بالتقسيم ممن أرادوا أن ينالوا حصتهم من الضيعة الوطنية المقسمة كما أسماها صديقي اللدود عبود اثرب، الذي أوحى إلي بموضوع المقالة، متذرعين حينها بالمظلومية التاريخية المرتبطة إلى حد ما بموضوع ابن تيمية وفتواه التكفيرية لبعض الطوائف، إلا أنه من غير المنصف أيضا إنكار حقيقة أن السواد الأعظم من "العلويين" رفض التقسيم وطالب باستعادة وحدة التراب والقرار الوطنيين في اجتماع ضم كبار أعيانهم في طرطوس سنة 1936.
إذن السيناريوهان اللذان تحدثت عنهما في البداية غير قابلين لحياة حقيقية، فما البديل؟ وما السيناريو الثالث الممكن؟
أقول وكلي ثقة، رغب البعض أم لم يرغب، لا حل إلا في المقولة الشهيرة لغاندي "إما أن نعيش معا كإخوة أو نموت جميعا كأعداء".. ومفهوم الأخوة هنا يقتضي حكما إسقاط ومحاكمة كل رموز وأشكال الاستبداد في سورية ثم الخروج إلى الشمس، عبر إعادة إنتاج ثقافتنا وهويتنا الوطنية الواحدة والصاهرة لكل هوياتنا اللامدنية السابقة.. ثم وبالتأكيد نسف أسطورة "العيش المشترك المستحيل" وتشكيل حجارة العِقد السوري الفريد من جديد.