عندما أقول في ثنايا حديثي "ببساطة أو ببساطة متناهية" لا يعني تسطيح المشكلة أو الحل بل يعني أننا ببساطة نعرف المشكلة لكن الحل ليس بسيطا وفي الوقت نفسه ليس مستحيلا. بعد هذه المقدمة ألج في الموضوع.
في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي نوه العلماء والخبراء عن ولوجنا إلى عصر مختلف ووقت مختلف، عصر سيتغير فيه كل شيء في مكونات الحياة الأساسية الثلاث: الإنسان أولا والدول ثانيا والأعمال ثالثا. عصر سيعيد تشكيل هذه المكونات. في تلك الثمانينات ألقيت المحاضرات وألفت الكتب وأعدت الدراسات. وكما ذكرت مرارا وتكرارا المقولة الشهيرة لمؤلف كتاب: "التحول الكبير" جون نيسبت الذي قال: "من السخف ألا نعيش العصر الرقمي في العصر الرقمي". والآن وبعد مضي عقد ونيّف من الزمان من الألفية الثالثة اتضح أن هذا العصر عصر اختلف فيه كل شيء وتعقد وتضاد. وأصبح المسرح المجتمعي الذي كان سهلا بسيطا متناغما بين مدرسته ومسجده وشارعه وبيته فيما مضى أصبح هذا المسرح متضادا بل وخطيرا، ببساطة لأن مصدر الفكر تعدد وتنوع واختلف وتضاد أيضا. كل ذلك وضع حملا ثقيلا على المدرسة تحديدا وعلى التعليم بشكل عام. وببساطة أيضا نرى أن المدرسة على الرغم من كل ذلك لم تعد تعرف نفسها بالقدر الكافي إذا أردنا التحفظ في الحديث، وبدون تحفظ نقول إنها المدرسة نفسها قبل ولوجنا في العصر الرقمي. ولأسباب عديدة ظهرت بوادر تصادم بين العصر الماضي والعصر الجديد، على الرغم من تحذير علماء ومفكري التكنولوجيا من ألا نصادم هذا العصر بل نصالحه ونسايره ونعمل ما أمكننا لنكون في مستواه. ولهذا لا بد من الانتباه لهذه البوادر وأخذها على محمل الجد للوصول إلى الكيفية التي تمكننا من التصالح وتفادي التصادم معه، وببساطة متناهية عن طريق تبني قيم عصرية تكفل هذا التصالح. بما أننا نعيش عصرا مختلفا لا بد من تعليم مختلف، هذه ضرورة وليست ترفا، الآن أتحول من التنظير إلى الواقع: مدرستنا تعطي مواد موحدة وواجبات موحدة لجميع فئات الطلاب أو ما اصطلح عليه بـ"Uniform Assignment"، أي أن تكون كل الواجبات والمهام التي يكلف بها الطلاب والمواد التي تدرس متشابهة لجميع فئات الطلاب تماما مثل تشابه الزي المدرسي الذي يرتدونه. في مدرستنا بعض المعلمين غير ملهمين وغير متعلمين وغير مدربين ولا يمكن التخلص منهم بسبب النظام. في مدرستنا مناهج يتم تدريسها بطريقة لا تناقش مشكلات وقضايا معاصرة. التعليم الحقيقي الذي يكون أساسا لكل القيم هو التعليم الذي يلعب دورا أساسيا في مختلف مجالات التنمية ويكون أساسا ومنطلقا لها. التعليم الذي يطلب من المتعلمين القيام بمشاريع تتسم بالجدة ويشرف عليها معلمون مميزون ملهمون. التعليم الحقيقي الذي يستخدم الإحصاء والفرضيات والاستنتاج والاحتمالية والأمور التي تدعو للتفكير وينتج عنها إبداع وتؤدي إلى إكساب المتعلم القدرة على التفكير. بعبارة أخرى التعليم الذي يكون هدفه الأخير إكساب المتعلمين مهارات التفكير والإبداع والابتكار وإنتاج الجديد. التعليم الذي يكفل التعايش مع العصر بسلام.
هذه مؤشرات يمكن بها قياس نوع التعليم الذي يمارس في أي مدرسة لنعرف بالتالي هل القيم التي نسعى لتحقيقها في مجتمعنا ستتحقق أم لا؟ وإذا دخلنا في التفاصيل نجد أن مادة الرياضيات مثلا تدرس بطريقة خطرة، فتدريس الرياضيات يبنى على مفهوم أن الرياضيات حقائق، ولكن جميع الدراسات والبحوث تشير إلى أن الرياضيات والعلوم لا تتعلق فقط بالحقائق بل هي علم العلاقات وهي لغة ومنطق عصر التكنولوجيا الذي نعيشه الآن. والقوة الرياضية هي القدرة على الاكتشاف والحدس والوصول إلى الحلول المنطقية واستخدام مختلف الطرق والأساليب الرياضية بفاعلية لمعالجة مختلف المشكلات والتعامل مع مختلف القضايا. والهدف النهائي من تعلم الرياضيات هو قيام جميع الطلاب باكتساب وتطوير "القوة الرياضية" للمشاركة الكاملة كمواطنين وكعاملين في عالمنا المعاصر.
هاتان المادتان تتعلقان بالابتكار والإبداع اللذين يتطلبان تغذية الطلاب عن طريق إعداد الدروس بشكل يمكّن المتعلمين من التخيل ومعرفة العلاقات بين الأشياء، ويعرضهم لتجارب وخبرات ويعطيهم جرعات مكثفة تكسبهم مهارة التخيل قبل دخولهم الجامعة. فالتخيل هو أساس الاكتشافات والإبداع والاختراع والرؤية، وتقول الدراسات إن الثقافة العلمية مطلب أساس للمواطنة، وذلك لأن تحليل معظم قضايا أي مجتمع بدءاً من البيئة إلى الصحة يتوقف على تلك الثقافة.
أما القراءة والكتابة اللتان تعدان مهارتين إدراكيتين مهمتين للغاية ويمكن استثمارهما في تحليل مكونات العصر وكيفية التعامل معه بدلا من تدريسهما بطرق تقليدية، فلا نكاد نجد فيهما استراتيجيات تفسير وتحليل النصوص والقراءة بين السطور والاستنتاج تطبق في الفصول الدراسية العالمية.
أما الاختبارات فلا تزال النظرة إليها على أنها عقاب للطلاب وعلى أنها مصدر للخوف والاستنفار والاستفزاز، وعلى أنها تبحث عن معلومات معدة مسبقا، ويجب استرجاعها بصرف النظر عن أهمية تلك المعلومات أو جدتها. لا بد أن نعرف أين نجح التدريس وأين أخفق وذلك بهدف تحسين المناهج والارتقاء بمعايير التعليم.
لكن كيف يمكننا تحقيق ذلك؟
أولا يجب أن ننقل اهتمامنا بالدرجة الأولى من الأمور المظهرية كالاهتمام بالبيئة المدرسية والتجهيزات (على أهميتها) ومما يمكن جلبه بالمال ليأتي ثانياً، على أن يكون اهتمامنا الأول وتركيزنا على ما يجري داخل الفصل الدراسي لأن ذلك يسهم في تقدم التعليم بنسبة لا تقل عن 85%. ممارسات المعلم داخل الفصل (التدريس) والطرق المستخدمة فيه والواجبات المعطاة للطلاب ونوعها وأهدافها وكميتها ومدى مناسبتها لسن الطلاب وتقييمها ومدى مناسبة التقييم وأثره والمشاريع التعليمية التي يكلف بها الطلاب والبرامج التي يمارسونها، وهل تم تقسيم الطلاب في كل فصل دراسي إلى مستويات: مميزون ومتوسطو التحصيل ومتدنو التحصيل؟ وهل يتم التأكد من أن كل فئة من هذه الفئات تتقدم فعلا؟ وهل يملك المعلمون الأدوات العلمية لعمل كل ذلك؟ وهل المشرفون الذين يزورون المعلمين مدربون على الإشراف والتوجيه على كل ما تقدم ذكره ويستطيعون تكريس كل تلك المفاهيم وتفعيلها داخل الفصل وعلاج قصور بعض المعلمين في ممارسة هذا المستوى من الأداء؟