كنت في نهاية المقال السابق قررت التفكير في الدور الذي يمكن أن يقوم به التعليم العمومي لإحداث تغيير في المجتمع. بمعنى أن يكون التعليم طريقا للخروج من هذه المعضلة: المجتمع لا يستمر إلا بالتعاون ولكن الأفراد لا يملكون أخلاق التعاون. النتيجة ستكون أن تمارس المؤسسات العنف لتحقيق الحد البسيط من شروط التعاون ولكن هذا لا يكفي بل يعني استمرار المشكلة. التعليم هنا يمكن أن يكون البيئة التي يمكن إدارتها بشكل معين، بحيث نعمل على أن لا تتكرر أخلاق الجيل القديم مع الجيل الجديد. طبعا لن يكون الفرق هائلا ويفترض أن لا يكون ولكن الأمل في تغيّر تدريجي للأفضل. لكن بدلا من هذا الحديث سأتحدث عن اتصال حدث بيني وبين أحد الأصدقاء ذكر لي فيه حادثة مهمة ومتعلقة بنقاشنا هنا.
يقول لي صاحبي إن له قريبا يكذب كثيرا بطرق مبالغ فيها لدرجة هائلة، منها ادعاؤه أنه مطارد من جهات دولية بسبب عبقريته. يقول صاحبي إن صاحبه لا يعاني من تخيلات أو تهيؤات لأسباب صحية بل يكذب بوعي لتحقيق أهداف اجتماعية. يقول صاحبي إنه لم يواجه قريبه يوما بالحقيقة. كل ما يفعل هو أن يستمع له بدون تفاعل. يقول: كثيرون مثلي لا يواجهونه بحقيقته احتراما للقرابة وعدم الرغبة في توتير العلاقة معه. ما يقوله صاحبي أمر ليس بالجديد عليّ. أعلم أن في مجتمعنا ترتفع معدلات المجاملات لدرجة أن الناس لا تواجه بعضها بما تعتقد. بمجرد أن يغادر هذا الشخص المكان يطلق الناس آراءهم وبأشكال في غاية الحدّة والقسوة. ما أريد أن أناقشه هنا هو أثر هذا السلوك الاجتماعي في النمو الأخلاقي للأفراد. بمعنى كيف تنمو أخلاق التعاون عن الأفراد في مجتمع لا يواجه الأفراد فيه بعضهم بعضا بصراحة؟
قلنا في مقالات سابقة إن تربية التعاون قائمة على حضور الآخر في تفكير الذات. بمعنى أن الذات المفكرة راسمة الخطط والأهداف تفكر في حضرة الآخر كشريك له مقام مثيل لمقام الذات. هذه العملية تتحقق من خلال التعرّف على الآخر أو إجراء رابطة جوهرية معه. هذا معناه التواصل. التواصل يعني أن تعود لنا أفعالنا وأقوالنا من منظور الآخر. الأخ الذي يستولي على لعبة أخته لن يعرف معنى سلوكه حتى يصل له صوتها. المعنى هنا ليس صراخها الرافض بل أن يتحول هذا الألم عندها إلى أثر يربك عالم الأخ ويحدث تغييرا فيه. أي أن يتحول ألم الآخر إلى إخلال باستقرار الذات يجعل الأخ يعرف بشكل أعمق أثر فعله. مع الأطفال قد يحتاج هذا لتدخل خارجي. تربية الدلع والقسوة تقطع هذا التواصل. الدلع يحمي الطفل المدلل من المعاناة من نتائج سلوكه والقسوة تفرد في إيذاء الفرد لدرجة قطع علاقته مع الآخر ومع مفهوم العدالة. السؤال هنا: هل يمكن فهم قصة صاحبنا من هذا المنظور؟ هل يقوم المجتمع المجامل بشيء مشابه لما تقوم به تربية الدلال؟
قريب صاحبنا يكذب وينسج القصص الخيالية عن أهميته وبطولاته ولكنه لا يواجه من يقول له إن ما يقوله خال من الأدلة ولا يوجد مبرر لتصديقه. بهذا الشكل فإن هذا الشخص محروم من أن يرى صورته الكذّابة في أعين الآخرين. الآخرون يساهمون في عزله ووحجبه عن آثار أفعاله. لو واجهوه وأخبروه أن ما يقوم به ينعكس سلبيا على صورته، عندها فلربما أدى به ذلك إلى مراجعة سلوكه وإعادة النظر فيه. طبعا المجتمع المجامل ليس مجتمعا لطيفا. هذا المجتمع يعبّر عن نفسه بأشكال مختلفة غير مباشرة. أنا متأكد أن قريب صاحبي ناسج الرويات والبطولات قد وصل له كلام سلبي قيل في حقه من قبل آخرين. هذا الكلام فيه ردود فعل على سلوكياته. المشكل أن هذا الكلام وصل في سياق "كلام في الظهر" أو "غيبة أو نميمة". هذا السياق يوفر للفرد داعما نفسيا قويا لأن لا يأخذ ما قيل فيه على محمل الجد وأن يتجاوزه على اعتبار أنه مجرد حسد أو غيرة أو ما شابهها. هنا يحصل الفرد على ردة فعل وصوره لذاته في عيون الآخرين ولكنها تصل في قالب مشوّه يجعل من السهل عليه إنكارها وتجاهلها أو على الأقل عدم الاعتراف بها في وعيه رغم أثرها النفسي عليه.
هنا نشاهد حالة من انقطاع التواصل المباشر بين أفراد المجتمع وأثر ذلك في نمو الأفراد أخلاقيا. في بيئة لا يصارح الناس بعضهم بعضا بآرائهم ومشاعرهم؛ يفقد الأفراد فرصة التعرف على الآخر وتكوين علاقة تواصلية معه، ما يؤدي إلى انقطاع الطريق أمامهم للتعرف على أنفسهم ورؤيتها في أعين الآخرين. عيون الآخرين هنا تبدو مراوغة ومحتالة وترسل رسائلها من الخلف. العين هنا لا تتواصل مع العين ولكنها ترسل رسائلها من بعيد ومن طرق غير مباشرة. ماذا لو جلس صاحبنا مع قريبه جلسة مصارحة وذكر له أنه لا يصدق الحكايات التي يرويها، ماذا لو قال كل هذا بلغة محب وبروح صادقة؟ نعم قد يغضب قريبه قد يتهمه بالغيرة أو ما شابهها ولكن هناك برأيي أمل كبير في أن يدرك هذا الشخص ولو بعد حين أن قريبه قد صدقه القول وأن الكذب لن يبني له الصورة التي يريد أن يبنيها لنفسه. ربما تكون هذه المصارحة هي ما سيكسر حاجز الاغتراب بين هذا الإنسان ومن حوله. الكذب في الأخير علامة على الاغتراب، علامة على العيش وحيدا في عالم متوهم. هذا كله ربما فتح أفقا جديدا لإعادة العلاقة مع الآخرين بالتعاون هذه المرّة لا بالكذب والاحتيال.