المادة العلمية وحدها، وعلى قدر أهميتها، يقيد رواجها الثقل، وتبقى بعيدة ومحدودة التناول، وفي الغالب لا يعمد إليها إلا الباحثون المختصون.
وحتى تتحرر من ضيقها هذا لا بد أن تخرج إلى صياغات تنمو فيها الدهشة، أن تصير لها روح، جسد، لسان، يدان وقدمان، وقصص وذاكرة، تتجاوز بها المعلومة جمودها، وتعبر إلى القارئ. تلمسه وتقدح في نفسه وذهنه سحريتها وعمق أثرها، لتغدو ذاك النوع الهائل من الكتب، الذي يجذبك ويعلّمك في الوقت نفسه.
كتاب "جبال مكة، قراءة تاريخية" لمؤلفه د. عدنان عبدالبديع اليافي الذي صدرت طبعته الأولى في عام 2014، جاء على هذا النحو البارع.
فإضافة إلى مادته التاريخية الرصينة والمهيبة، وسبقه وفرادته في تناول جبال مكة، فقد زخر هذا العمل بالقصص والمرويات الموثقة، بالآيات القرآنية والأبيات الشعرية والعظمة، بالصور والرحلات والخرائط واللحظات المؤثرة، والعديد من الشخصيات، وعشرات المصادر.
بدأ د. عدنان بين يدي كتابه بمحبته للجبال بعموم، وجبال مكة بشكل خاص منذ كان طفلا، مرورا بشبابه، وعمله نائبا لمدير عام مركز أبحاث الحج، لتجيء هذه الكتابة بعد تجارب ومعرفة وخبرات طويلة، مشيرا إلى أنه اقتصر في اشتغاله على الشوامخ فقط من جبال مكة، فهي –أي جميع الجبال- كما نقل العلامة عبدالله الغازي قول القطبي عنها "إنها لا تُعد".
تناول الكتاب جبل حراء "النور" وغاره الشهير، مهبط الوحي، وجبل ثور وغاره الذي اختبأ فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر حين الهجرة، وجبل الحجون و"كم بذاك الحجون من حيّ صدقٍ، من كهول أعفة وشباب"، ثم جبل الخندمة الذي كانت به وقعة يوم فتح مكة، ثم جبلي الأخشبين، الكبير والصغير، "ذكر المؤلف اختلاف الآراء فيهما، كما في صفحة 132، نقلا عن عاتق بن غيث البلادي، في معجم الحجاز: "والأخشبان جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى، وهما واحد، أحدهما أبو قبيس، والآخر قعيقعان، ويقال بل هما أبو قبيس والجبل الأحمر المشرف هناك، ويسميان الجبجبين أيضا". ثم جبل المطابخ، الذي كانت به مطابخ الملك تُبّع حين جاء مكة، وكسا الكعبة ونحر البدن، ثم جبل ثبير، والأثبرة الأخرى "غيناء، جبل الزنج، ثبير النخيل، ثبير النصع، ثبير الأعرج"، ثم جبل عمر، الذي كان به مولد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ثم جبل كديّ.
الدكتور عدنان اليافي، خريج جامعة تكساس 1983 له العديد من البحوث العلمية والمؤلفات بالعربية والإنجليزية، وله دوما رحابة البحر، وفي عينيه الجبال.