في بيئة مكونة من أعراق مختلفة من الملايو والصينيين وخليط هندي وملونين مع تركيبة دينية مختلفة من كونفوشيوسية ومسلمين ومسيحيين، وجد (لي كوان يو) نفسه وهو في الثانية والأربعين من العمر مسؤولا عن بلد خرج من استعمار مضن، امتدحه فقال: "تركو لنا جزيرة بدون أرض داخلية، قلبا بدون جسد، لم يبقوا لنا شيئا غير القوانين"! وهم فعلا تركوا الشعب السنغافوري في 1965 يصافح كل خطوط الفقر، ولا يملك غير مراكب صيد شاخت لأن نقلها يكلف المستعمر البريطاني المنسحب أكثر من ثمنها، مع بعض الإنتاج من جوز الهند، والكثير من التخلف وضيق مساحة البلاد وذات اليد. فكانوا يستوردون أنواع الرمل والطين لردم البحر وتوسيع مساحة أرضهم، لأن أفق نظرهم أصبح فسيحا وطموحا. يقول (لي كوان): "هنالك كتب تعلمك كيف تشيد منزلا، وتصلح محركا، وتؤلف كتابا، لكنني لم أر كتابا حول كيفية بناء دولة انطلاقا من مجموعة من المهاجرين اليائسين".
ومع هذا فقد كوّن جيشا في بيئة تتأثر بثقافة الصين التي تنظر بتوجس إلى مهنة الجندية وكان لا بد من بعض القوة، حيث هو في منطقة رعب بسبب قوة العقل والصبر، فبغض النظر عن الصين أو اليابان ففيتنام لوحدها حاربت الصينيين ألف سنة، وحاربت الفرنسيين مائة سنة، وقاومت وأخرجت الأميركيين من أرضها في أقل من عشر سنين.
وفي وقت تعاني فيه أمم كثيرة من الصمم لنداء الواقع فإنه جعل من بلاده الصغيرة كبيرة الحضور، فقد كّون اقتصادا قويا في بيئة مليئة بالإصرار على النجاح، فلم يعش عقدة الصين وضخامتها وبدأ يفكر أنه من الحمق السماح لنفسه وشعبه بالخضوع لتأثير التنويم المغناطيسي الذي يفرزه التفاوت بين سنغافوره وجاراتها، فكان قدوة لشعبه ومثلا لهم في الدأب والجدية والنشاط والتوق للعلم والمعرفة، فأصبحوا مثله، ومع أن (لي كوان يو) درس في جامعة كامبريدج ضمن منحة إلا أنه لم يعترف كثيرا بكونه من أسرة بسيطة ماليا، عمل محاميا كما كان غاندي ومانديلا محاميين من قبله بلا مكتب أو عنوان، ومطلوبين للعدالة.. أما (تاتشر) فكان أبوها بائع خضار، و(جون ميجور) والده بائع تذاكر "كومسري".
وكان من أهم خططه جودة العطاء وأن يقود تنمية بلده أصحاب القدرة وليس الحظوة، فمقارنة بالعالم الثالث الذي يولد فيه الموهوبون ويغادرون ولا يجدون مكانهم الصحيح حيث يشغله الذين أتو بمحسوبيات وقلة كفاءة ولا شافع لهم إلا التخلف الذي يلد بعضه أو الأسباب الجينية القاتلة، وخلاف ذلك، عمل (لي كوان يو) على اللحاق بأفضل الشركات العالمية ووكالات الفضاء وبكل الطرق المتقدمة التي تخضعها لمنسوبيها بما يتعلق باختيار الكفاءات المناسبة لمن يتم اختياره بناء على القدرة العلمية والتحليل والمخيلة الإبداعية والحس بالواقع، حيث ضرب مثلا بإحدى الشركات في العالم الأول استخدمت أربعين عالما نفسيا ممن استطاعوا النفاذ إلى عمق الشخصية والتعرف على ملامحها وتعابير الوجه ونبرة الصوت ولغة الجسد الإشارية لترقية وتوظيف أربعين ألفا من منسوبيها! بل وأكثر من ذلك، كانت لديه شجاعة لترك الأساليب القديمة وكسر حاسة الحنين البليد لكل ما هو قديم بلا أسباب، حتى في الأساليب الإدارية المتأثرة بالنظام البريطاني، ومن هذه اللمحة في جودة الاختيار تم انتقاء الكثيرين من أبناء سنغافورة ليبحروا بجزيرتهم نحو التقدم، فأصبحت بلاده من أقل دول العالم فسادا ولا زالت، وباقتصاد متين وصلب.
ففي 1998 وتحت وطأة أسباب كثيرة انهارت اقتصادات النمور الآسيوية ونجت من ذلك سنغافورة بالحد الأدنى، فتنوع الاقتصاد وتشكل وأنتج، حتى إن شركة الطيران السنغافورية أخذت لسنين طويلة المركز الأول على مستوى العالم بين نظيراتها مع أنها حكومية بشكل كامل -وفي هذا إلماحة لمن يحسب أن القطاع الخاص هو الحل فالبلاد المتخلفة تصنع تخلفها عاما وخاصا- وإضافة إلى أنها أصبحت مركزا ماليا عالميا، فإن سنغافورة أصبحت في التسعينات ثالث أكبر مراكز تكرير البترول في العالم بعد هيوستن وروتردام، وثالث أضخم مركز لتجارة البترول بعد نيويورك ولندن مع أنها لا تنتجه!
وصدقت الكثير من تنبؤاته المبنية على دراسة وتفكير. منها تفكك الاتحاد السوفيتي، وتوالي الهزات الاقتصادية في العالم، وتحول كوريا الشمالية إلى حالتها الراهنة. وقال -مما يتماشى وفلسفة التاريخ ولم يتحقق إلى اليوم-: "إن الضغط الغربي لن يجدي مع الصين، لكن الشعب سيمر بتغيرات ثقافية ينتج عنها تغيير الواقع السياسي بشكل مريع، وإن ما حدث في ساحة تيانان مين عام 1989 من استثناء في تاريخ الصين الحديث ما هو إلا نداء للحرية ستسمعه الأجيال بعد زمن وتلبيه"! كما تنبأ بالكثير من فقدان أميركا لثقتها بنفسها. أما مذكراته المعنونة (من العالم الثالث إلى الأول) فكبيرة ومفيدة في ألف صفحة ممتعة. تحدث فيها عن قصة نجاح بلاده الذي هو نجاحه، كما تفلسف بشكل عميق عن اليابان وقراءته لهزائمها ونهوضها ومبدأ سكوتها على قهر أميركا لها وأثر الثقافة اليابانية في ذلك، وفصل كثيرا عن واقع ومستقبل شرق آسيا، وتعرض على المستوى الشخصي لكثرة التأمل الذي كان يمارسه بشكل يومي.. تعجب من اللكنة الألمانية القوية في لغة اليهودي ألماني الأصل (كيسنجر) وهو يقود ديبلوماسية أميركا كبلد لغته الرسمية الإنجليزية، وأسهب القول عمن قابلهم من المؤثرين في العالم، وسرد تفاصيل استفادته منهم وإن كان لم يتحدث عن العرب إلا فيما يتعلق بجمالهم، وأنه طلب مساعدة بعض الدول العربية في مرحلة التأسيس فلم يجيبوه، بينما عرضت عليه إسرائيل المساعدة لكنه لم يستفد منها كثيرا، والمذكرات لم تخل من مديح لذاته إلا أنه لا غنى عنها "للمهتمين بقصة النجاح". ومنذ 1995 تجاوز دخل الفرد في سنغافورة مثيله في بريطانيا واستمر في التزايد حتى اليوم، فأصبح دخل الفرد السنغافوري من بين الأعلى في العالم وامتلك 90% من السكان منازلهم، واضطر رئيس وزراء بريطانيا للاعتراف بأن مستعمرة الأمس أصبحت ملهمة اليوم. وكان تأبين الرئيس الأميركي أوباما له جميلا بقوله: "إنه عملاق كبير من التاريخ".
رحل لي كوان يو قبل ثلاثة أسابيع، في 23 مارس الماضي، وحضر وألقى نظرة الوداع على جنازته 10% من سكان سنغافورة، وقد تكون أكبر نسبة لعدد سكان يشيعون فردا في التاريخ، إلا أن القيمة تظل في الإنجاز الذي حققه.