تحدثنا في مقال سابق عن (الأنا والحوار)، وعرفنا أن (الأنا) تأخذ كل شيء على محمل شخصي، وتنشأ عن ذلك، المشاعر والحس الدفاعي، بل العدوانية، إنه انحياز المحاور في حواره للـ(أنا) التي فيه أكثر من البحث عن الحق والحقيقة، وتساءلنا: لو كان الدفاع عن الحق هو ذريعة المتحمسين والمتعصبين له، فلماذا لم يؤد تكذيب الناس للأنبياء إلى إحياء مثل هذه المشاعر العدوانية في نفوس الأنبياء دفاعاً عن الحق والحقيقة؟ وكانت الإجابة لأنهم لم يعرفوا أنفسهم من خلال (الأنا) التي فيهم وإنما من خلال ذواتهم الربانية.

إن (الأنا) تحول الحوار دائماً إلى نزاع، لأن (الأنا) تعريف مسبق بالأشياء، هذا جيد وهذا سيئ، هذا خير وهذا شر، وكأن للأشياء وجودا مستقلا بذاته، وذلك نتيجة الاعتماد المفرط على الأفكار وعلى العقل، وبذلك يتجزأ الواقع، وهذا التجزؤ هو وهم قد يبدو حقيقياً جداً بالنسبة لي عندما أعتقد أني أفكر في مصلحتي أنا فقط، ولكن الحقيقة أبعد بكثير من ذلك، الكون ليس كذلك، الكون لا يقبل التجزئة والتقسيم، كل ما فيه متداخل ولا شيء فيه منعزل عن الآخر، وتفكير (الأنا) في مصلحتها فقط دون مصلحة الآخر هو وهم ستدفع (الأنا) ثمنه عاجلاً أم آجلاً.

(الأنا) لا تستطيع أن تميز بين الحقيقة وبين الرأي. فقط من خلال الوعي أصبح قادراً على أن أفرق بين الحدث وتفاعلي مع الحدث، أو بين الوضع وبين ردود فعل الوضع والغضب الذي ينتابني تجاه عواطفي.

أدركت حينئذ الخلل الذهني في أن أجعل نفسي دائماً على صواب وأجعل الآخرين مخطئين، فهذا يفاقم فجوة الانفصال بين الناس ويعمق النزاع بين البشر، سألت نفسي: هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟ هل هناك تملك حصري للحقيقة وللصواب؟ إن الأنبياء وهم حملة الرسالة ومن يدركون أنهم على صواب، لم يمنعهم ذلك من ممارسة الحوار في أجمل وأبهى صوره، فلم إذن نتعصب لأفكارنا؟ هل الحقيقة أو الحق هي التي تحتاج إلى حماسنا هذا؟ أم أن (الأنا) التي فينا هي التي تحتاج أن تكون صائبة ومحقة، لأن في ذلك تعزيزا لها وتقوية.

عدت أدراجي أراجع وأقرأ وأبحث عن مواطن الحوار في كتاب الله فوجدته مليئاً بأجمل وأبهى وأصدق صور الحوار، بل إن الله سبحانه وتعالى ألهم أنبياءه وسمح لهم بالحوار معه، وهو الخالق الذي ليس كمثله شيء، فها هم أولو العزم من الرسل بدءاً بإبراهيم عليه السلام الذي قال: "رب أَرني كيف تُحْيِي الْموتى قَال أَولَم تؤمن قَال بلَى ولَ?كن لِيطمئن قَلبِي"، ونوح يحاور ربه في قومه حتى إذا استحقوا العذاب أمره الله أن يكف فقال سبحانه: (ولا تخاطبني فِي الذِين ظَلَموا إِنهم مُغرقون)، وبذلك أصّل الله هذه الأداة وفعلها في أنبيائه لتصبح جزءاً من كيانهم وطريقة عملهم مع أقوامهم. ووجدت في بحثي في كتاب الله في القرآن الكريم نماذج كثيرة لحوار غير الأنبياء مع أقوامهم، بل وسورة كاملة هي سورة غافر سميت كذلك بالمؤمن نسبة لمؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه ويحاور قومه خوفاً عليهم، راغباً في هدايتهم ونجاتهم فوقاه الله سيئات ما عملوا.

لقد كان حواراً منبعه الحب والوجل والخوف على أقوامهم قال تعالى لسيدنا محمد: "لَعَلّكَ بَاخِع نفسَكَ أَلا يَكونوا مؤمنِين"، وقال: "فَلا تذهبْ نفسُك علَيهِم حسرات".

فكيف إذًا يمكنني أن أحيد أو أهمش (الأنا)؟ وقعت في يدي إحدى وسائل التدريب العملية الفعالة وهي السماح عن وعي بزوال (الأنا)، يحدث ذلك عندما لا نحاول استعادتها والدفاع عنها وتصحيح شكلها.. حين ينتقدك شخص أو يشتمك بدلاً من أن تدافع أو تصعد الرد لا تفعل، وإنما اتبع الأمر الإلهي وادفع بالتي هي أحسن، وأبق صورة (الأنا) ممحوة مهزومة وكن منتبهاً تجاه إحساسك وشعورك حيال ذلك في أعماق ذاتك، في بادئ الأمر قد يكون إحساساً مزعجاً وكأنك انكمشت وصغرت في عين نفسك، ولكن بعد وهلة ستشعر بمساحة داخلية تفيض بالحياة، ستقترب من المصدر ومن الروح، إنك لم تصغر ولكنك توسعت وكبرت، هنا فهمت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تواضع لله رفعه" ولا يكون ذلك إلا عندما نتحرر من التماهي مع (الأنا) والصورة الذاتية الوهمية الذهنية، عندها ستتسامى عن الشكل وعن الصورة بنكران (الأنا)، وعندها ستكبر وتصبح أكثر ثقلاً وعمقاً وحضوراً وسكوناً.

"دخل الخليفة عمر بن عبدالعزيز المسجد وكان مظلماً فداس خطأ على قدم رجل كان نائماً فقال الرجل له غاضباً: ما هذا أأنت حمار؟! فأجاب الخليفة: لا بل أنا عمر، فاستنكر مرافق الخليفة ذلك السؤال وتلك الإجابة، فقال له عمر مهدئاً: إنما سألني فأجبته". إنه الوعي اليقظ الذي يساعد على انفتاح قلبي وعقلي ويؤدي إلى محبة الناس والتعاطف مع الآخرين، ويقتل (الأنا) التي تعشق تحويل الحوار إلى نزاع.

إن ما يبدو ضعفاً بالنسبة للـ(أنا) هو في الحقيقة عين القوة، بل القوة الحقيقية، ولكن هذه الحقيقة الروحية تتعارض كلياً مع قيم ثقافتنا المعاصرة، إنه الإقلاع عن محاولة تقوية الذات عن طريق حب الظهور والتميز والمطالبة بالاهتمام، وأخيراً وصلت إلى نهاية رحلتي مع (الأنا) والحوار وسألت نفسي: كيف أمارس الحوار لأحقق من خلاله المغزى الإنساني من الخلق في تأصيل مفهوم الوحدة الجوهرية في قوله تعالى: (الذي خلقكم من نفس واحدة)، والتنوع الظاهري في قوله تعالى: (لتعارفوا).

أدركت أنه لا يمكن أن نُكون أي علاقة أصيلة أو حواراً حقيقياً ما دامت (الأنا) المهووسة بصنع الذات الوهمية هي المسيطرة علينا، فالعلاقة الأصيلة والحوار الحقيقي هو تدفق وعطاء وإيثار وتجرد، هو الاهتمام الصادق المنفتح نحو شخص آخر بحثاً عن الحق والصواب بعيداً عن الأنا التي تدعو إلى الجدل والنزاع والصراع، استحضرت قول رسول الله: (ما ضل قَوم بعد هُدى كَانوا علَيه إِلا أُوتوا الْجَدلَ).