تقول لنا الدراسات الحديثة إن مقياس الذكاء المستخدم الآن والذي اصطلح على تسميته بـIQ ظلم كبير وخطأ تم ارتكابه على مدى أجيال، لأنه يستبعد أذكياء حقيقيين خارج منظومة العلوم والرياضيات والقرائية التي يركز عليها، وما عدا ذلك لا يستحقون الذكاء، والأمر فيه تفصيل كثير وعميق ليس هنا مجاله، لكننا نقول إن المؤسسات الاقتصادية ومؤسسات التعليم الناجحة لم تعد تعتمد عليه.. المؤسسات الاقتصادية تعتمد على الذكاء الاجتماعي ومؤسسات التعليم الناجحة بدأت تفكر في مقاييس تعدد الذكاء التي طرحها هاورد قاردنر، وكنت في شهر مارس من عام 2008 أي قبل نحو سبع سنوات طرحت هنا في هذه الجريدة عرضا لكتاب غاية في الأهمية ما زال يدرس إلى الآن في الجامعات الأميركية والأوروبية وعنوانه: المنجزون "outliers: the story of success" موجه للتربويين والإداريين ورجال الأعمال والسياسة وكل صاحب عمل على وجه الأرض.. وكلمة OUTLIERS تعبير استعاري يعني به جلادويل: الناس غير العاديين Extraordinary People . وفي مكان آخر قصد به "المنجزون بدرجات عالية" أو الذين يحققون إنجازات غير عادية.

يطرح هذا الكتاب رؤى مختلفة لتحقيق الإنجاز وأسباب مختلفة للتفوق وشروطا مختلفة للتميز كلها لا تعتمد على الـIQ.. كنا في السابق نربط الإنجاز والتفوق بـIQ نسبة لذكاء الأفراد ثم خرج لنا الذكاء الاجتماعي EQ الذي تطبقه معظم الشركات الكبرى مثل GE جنرال إلكتريك الناجحة جدا وشركة Southwestern Airline، وهذا يعني توظيف المشاعر في العمل. وتم دحض عدم لعب نسبة وبالأدلة والبراهين أي أدوار ذات قيمة في تفوق الإنجاز وتميزه، حيث يقول: "لن يكون احتمال حصول الفرد صاحب IQ يصل إلى 175 على جائزة نوبل أكثر من احتمال حصول فرد صاحب مستوى IQ يصل إلى 140".

وهنا يطرح سؤال مهم هو: هل العبقرية تُصنع؟ وإذا كان الأمر كذلك كيف يمكن صناعتها؟ بمعنى آخر، كيف يمكن أن يكون الفرد عبقريا ويحقق إنجازا متميزا في حياته؟

مالكولم جلادويل يقول لنا في كتابه هذا كيف.

إذا كان الإنسان موهوبا فإن الموهبة وحدها لا تحقق للفرد صنع الإنجازات ولا تحقق النجاحات.. هذه الموهبة يجب أن تغذى بشكل كبير "بظروف ملائمة" أسماها جرعة كبيرة من "الحظ الجيد" Good Fortune وجلادويل لا يؤمن بالبناء الذاتي للفرد.. لأن الإنسان لا ينفع وحده مهما كان موهوبا أو مجتهدا أن ينجح ويحقق إنجازا ذا بال. البناء الذاتي مهم لكنه لا يكفي.. إنه لا يؤمن بمساعدة الذات وأنه مُحبط لكل الذين يظنون أنهم يستطيعون بموهبتهم صنع المعجزات.. وجلادويل يؤكد بطرح ثلاث نقاط حول أصحاب الإنجازات المتميزة " outliers " "وهي أولا: فيما يتعلق بفائدة الموهبة فإنها لا تحقق وحدها التميز لفرد عن فرد أقل موهبة.

ثانيا: كل الذين ينجزون أعمالا متميزة يحتاجون إلى قدر كبير من الحظ.

ثالثا: أن قدرا كبيرا من الحظ يأتي كإرث مجتمعي، بمعنى آخر نتاج للمجتمع الذي أخرج هذا الفرد إلى العالم.

وهنا يجب أن تكون هناك وقفة تأمل حول مفهوم "الحظ" وما أثاره جلادويل حوله. لقد أعطى جلادويل أمثلة كثيرة من مشاهير العالم أصحاب الإنجازات الكبيرة. على سبيل المثال بل جيتس كـ"outlier" مرت به فرص متلاحقة أهمها أنه كان يعيش بالقرب من جامعة واشنطن تسمح باستخدام مبان للحاسب الآلي بين الساعة الثالثة والسادسة صباحا. ومن ذلك حقق له الانكشاف على تطوير البرامج في سن مبكرة، وأن ذلك تم بواسطة العدد من الحوادث التي حدثت له بمحض الصدفة والحظ.

ويقول جلادويل إن بناء الذات لوحده بالنسبة للفرد يعد أسطورة. هنا تقليل من أهمية العزيمة والتصميم الفردي وتركيز على الدور المجتمعي وعلى ثقافة المجتمع أو كما أسماها cultural legacy. ويقول أيضا إن الذي يصنع "المنجزين" ليس الموهبة والتصميم فقط، بل يجب أن يصاحبها جرعة من الحظ..

جلادويل يخدم ثقافة المجتمع التي تشجع الاجتهاد والعمل الدؤوب.. ويعرض المثل الصيني الذي يقول "الفرد الذي يستيقظ قبل الفجر على مدى 360 يوما في السنة لن يخفق في صنع الثراء لعائلته"، والبعض يرى تناقضا في طرح جلادويل إلا أنه يعني أن العمل الدؤوب مهم، لكنه لا يصنع لوحده إنجازا متميزا.. ويقول جلادويل إن هناك أمثلة كثيرة لمجتمعات كثيرة لأفراد حصلوا على فرص وهم لا يستحقونها، وهناك أفراد فقدوا فرصا كثيرة وهم مستحقون لها.

وذلك لأننا كما يقول نعيش في عالم غير عادل في توزيع الفرص.

وينتهي الكتاب إلى عرض المنطق الذي يؤمن به الذي يقول إنه على الناجحين أن يكونوا أكثر كرما للأفراد الأقل نجاحا "للفاشلين"، كما أنه من المؤلم أن الفرد يعزي نجاحه إلى تصميمه وجهده ويعزي الفشل إلى الظروف، وذلك للهروب من النقد والمسؤولية.. وهذا طرح معاكس لما يجب أن يكون الأمر في عالم مثالي.

وخلاصة القول هنا تركيز على الدور المجتمعي داخل المؤسسات التي يجب أن تعزز الذكاء الاجتماعي وإتاحة الفرص والتشجيع.. أكثر من الاعتماد على نسبة الذكاء.. كما أنها دعوة جادة إلى إعادة التفكير في مقياس الذكاء التقليدي الظالم الذي يستبعد أذكياء حقيقيين. هذا كلام علمي صرف وليس اجتهادا أو رأيا. فهل وعيناه وأخذناه في الاعتبار؟