المبدأ الأساسي لكل مجتمع هو أن يُبنى على أساس التعاون. أي أن يتوافق أفراده على العيش المشترك وتبادل الأدوار في ما بينهم. نحن هنا أمام حقيقتين أساسيين: أولا أن الفرد لا يستطيع العيش وحده، وثانيا أن المجتمع لا يستمر إلا من خلال قدرة أفراده على التعاون. الحقيقة الأولى تشير إلى أن الفرد يحتاج الآخرين للحصول على أساسيات حياته: أكله وشربه ومسكنه ولغته ومشاعره وتفكيره. أحيانا تضعف عملية المقايضة إحساس الناس بالتعاون. بمعنى أن الفرد الذي يشتري احتياجاته بالمال لا يشعر مباشرة بالطبيعة التعاونية بينه وبين البائع. لكن التبادل المالي ليس كل ما في المعاملة. التبادل المادي نفسه قائم على شكل من أشكال الثقة المتبادلة، بمعنى أن المشتري يثق بأن ما يقدمه البائع، وجبة طعام مثلا، صالح للاستعمال وآمن. في المقابل فإن البائع يثق أن المشتري سيقدّر مجهوده ويعطيه ثمن سلعته بدلا من سرقتها. على مستوى آخر يغيب عن تفكيرنا كثيرا دور الآخرين في تفكيرنا وتواصلنا. من المعروف اليوم في علوم اجتماع اللغة أنه لا لغة بدون جماعة ولا تفكير بدون جماعة. وبالتالي فإن الذات نفسها هي في الأخير نتيجة للعلاقة مع الآخرين كما حاولنا الإيضاح هنا في المقالات السابقة. كل هذا يعني أن الأنانية عملية معاكسة لكل ما نعتقد أنه أساس للعيش والتواصل والشعور والوعي.
من المهم هنا أن نميز بين الفردية والأنانية. الفردية لا تتعارض مع إدراك الطبيعة التعاونية والتواصلية الضرورية للحياة ولكنها تؤسس لأحد شروطها وهو أن تحتفظ الذات بذاتيتها ولا تذوب في الجماعة. أي أنها تؤكد هذه الفكرة: التعاون يعني وجود أكثر من طرف في العلاقة. الفردية تؤكد عدم التفريط في أحد الأطراف لأن هذا سيلغي فكرة التعاون من أساسها. حين يستولي طرف على آخر ويقوم بإخضاعه فإن ما يتم بينهما ليس تعاونا ولا تواصلا بل ضرب حاد من ضروب العنف. الفردية هنا هي تأكيد على شرط من شروط التعاون وهو استقلال وتمايز الأطراف. في المقابل الأنانية تقوم على تحجيم دور الآخر وإبقائه مجرد أداة لتحقيق أغراض الذات.
موضوعنا هنا هو محاولة في فهم المجتمع المنتج للأنانيين. أو بشكل أدق العلامات والظواهر التي يمكن ملاحظتها في مجتمع تكثر فيه تربية الأنانية. لا بد هنا من التذكير على الأنانية غالبا ما تكون نتيجة لأسلوبين من أساليب التربية تحدثنا عنهما بالتفصيل في المقالات السابقة: تربية القسوة وتربية التساهل أو الدلع. كلتا الصورتين تنتج أفرادا غير قادرين على رؤية الآخر خارج أفقهم الخاص. أي أن الآخر يتم رده باستمرار للذات ولا معنى له خارجها. في مجتمع يكثر فيه الأنانيون أو يتم التوافق فيه على أخلاق الأنانية نواجه معضلة حقيقية يمكن التعبير عنها كالتالي: لدينا مجتمع لا يمكن أن يستمر إلا بالتعاون ولدينا مجموعة كبيرة من الأفراد توافقت على أخلاق غير تعاونية. هنا يمكن أن نلاحظ أننا أصبحنا أمام ظاهرة معروفة وهي عنف القانون. أي أن مؤسسات المجتمع القانونية تلجأ لاستخدام العنف للحفاظ على الطبيعة التعاونية في المجتمع وعلى قدرة الناس على حل مشاكلهم بالسلم بدلا من العنف وتخفيف حدة الصراع بينهم. بمعنى أننا نصل إلى حرب بين مؤسسات المجتمع ومجموعة كبيرة من أفراده. هنا لم تعد المؤسسات تعبيرا حقيقيا عن إرادة الناس بقدر ما هي تعبير عن محاولة عنيفة لمجتمع لا يملك أخلاقا تعاونية. هنا نعود إلى النقطة الأساسية لهذه المقالات وهي علاقة أخلاق التعاون والنمو الأخلاقي بالعدالة. هنا نواجه صورة مختلفة نسبيا لذات المعضلة السابقة: المجتمع غير العادل يفشل في مساعدة الناس على إنجاز أخلاق التعاون والناس الذين لم يتربوا على أخلاق التعاون "الأنانيين" عاجزون عن تأسيس ودعم مجتمع عادل. هنا نصبح أمام خيارات عنيفة: إما مجتمع محكوم بالعنف أو تفكك عنيف للمجتمع.
أمام هذه الحالة المخيفة وضع كثير من المهتمين أملا واسعا في مؤسسات التربية والتعليم. بمعنى أن المدارس يمكن أن تكون الحلقة التي يتحول من خلالها المجتمع غير العادل بالتدريج إلى مجتمع عادل. أي أن المدارس يمكن أن تكون هي المصادر التي يمكن من خلالها تزويد المجتمع بأفراد من نوعية مختلفة. نوعية من البشر تمت حمايتهم من أجواء الصراع وتزويدهم ببيئة مناسبة لنمو أخلاق التعاون. المدرسة هنا يفترض لها أن تدخل عنصرا جديدا في المجتمع يمكن الرهان على المستقبل معه. إذا كان المجتمع التقليدي يسعى إلى أن يكرر الجيل الجديد تجربة الجيل القديم فإن فكرة المدارس يمكن أن تسعى إلى ضخ تجربة جديدة تساعد على ظهور جيل جديد مختلف بدرجة ملحوظة عن الجيل السابق. طبعا تصور واحد للمدارس وإلا فإنها يمكن أن تعمل لتكريس القديم والاستفادة منه من خلال سيطرة جماعة محددة على التعليم لخدمة مصالحها.
الأمل الذي تفتحه مؤسسة التعليم يحتاج إلى حالة من وعي لدى أفراد فاعلين في المجتمع بأن الدفع باتجاه أخلاق التعاون هو المخرج من المأزق الكبير. الأمل كذلك ينبع من أن تربية القسوة والدلع لا تنتج بـ"الضرورة" أنانيين. صحيح أنها "غالبا" تنتج أنانيين لكن الإنسان قادر في كثير من الأحيان على الظهور بنتائج مخالفة للظروف التي ينشأ فيها. الإنسان كذلك ليس حالة واحدة مستقرة بل تطور مستمر، لذا فالأفراد الذين عاشوا أنانيين في فترات من عمرهم قادرون من ناحية المبدأ على الخروج من الأنانية من خلال توافرهم على خبرات وتجارب تدعم فيهم حسن الأمان والمحبة والشعور بالانتماء للآخرين والقدرة على التواصل معهم. هذا الأمل سيكون موضوع المقالات السابقة المخصصة للتربية والتعليم.