اليمن شعب يقتات على ما تيسر من الخبز والحب والغناء. يلوون عمائمهم على رؤوس امتلأت حكمة، ويتمنطقون بأحزمة على بطون ضامرة لم ترهلها ألوان الترف. يفترشون أرضهم الخضراء الندية، ويلتحفون سماء تصطف نجومها. يحلمون أن يتناولوها لينظموها قلائد تزين أعناق الحسناوات في الحقل وعلى الغدير.

اليمن في عناق دائم مع المعصرات، يلوح البرق في قمم جباله، وينزل الغيث ليتشبث بأوديته: وادي "بنا"، وادي "دوعن"، وادي "الحسيني"، وادي "حضرموت".

وكل واد منها يسير يحمل نفسه. يكسو موارده، ويلبس البلاد السعيدة كساء لا يعرف الذبول، ونضارة تأسر القلوب، فترى الراعي والواقف خلف المحراث والباني وسيدة الحقل، كل هؤلاء في طرب دائم، تغشى وجوههم طهرانية المطر، والرضا بتلك الحياة الخضراء بين سنابل القمح وأشجار البن، يغنون للحياة وللحب، ويبيتون على الهناء والوعد بغد أكثر اخضرارا.

أهل اليمن هم أكثر الناس حبا لبعض. أكثر العرب ترابطا فيما بينهم. يمضون إلى الحقل عصبة واحدة لا يفرقهم شيء. يشيدون القصور بهمة رجل واحد. يرفعون صوت الزامل بأصوات تهتز لها الجبال حماسا وطربا.

يتقاسمون عناء وحزن وألم بعضهم، تماما كما يتقاسمون الخبز والفرح. أعيادهم بهجة وألوان، وحناء ورقص وغناء. يومهم كدح ونشاط ونضال من أجل بقاء قلوبهم حية، وليلهم غناء وأوتار عود وحكايات حب لم ينهها عجف السنين.

هذا هو اليمن السعيد الذي نطرب عند ذكره، وننتشي حين نسمع صوت فنانه "أيوب طارش" متناغما مع المناظر ا?سرة التي تظهر من جبالها وحقولها وأوديتها.

هذا اليمن بلد الشعر والحكمة والعلم والأدب. بلد "الزبيري" و"البرودني" و"المقالح". بلد الحنطة والبن والقمح والبهاء.

هذا "اليمن"! كيف أصبح تعيسا يعمه الفوضى؟ كيف تبنى قاعدة لصواريخ الدمار فوق الخضار؟ لم الأحزاب والميليشيات والدم والبكاء؟ لم الدمار بد? من البناء؟ لم أصبح اليمن أكثر البلاد تمزقا وصراعا وكرها؟ ليت أهل اليمن يقفون على أعلى قمة منه ويغنون قول البردوني:

من أرض بلقيس هذا اللحن والوتر/من جوها هذه الأنسام والسحر/

من صدرها هذه ا?هات من فمها/هذي اللحون ومن تاريخها الذكر/

من السعيدة هذي الأغنيات ومن/ظلالها هذه الأطياف والصور/

أطيافها حول مسرى خاطري زمر/من الترانيم تشدو حولها زمر/

من خاطر اليمن الخضرا ومهجتها/هذي الأغاريد والأصداء والفكر/

هذا القصيد أغانيها ودمعتها/وسحرها وصباها الأغيد النضر/

يا أمي اليمن الخضرا وفاتنتي/منك الفتون ومني العشق والسهر.