في صيف هذا العام، حضرتُ عرضاً سينمائياً في مسرح المفتاحة، يحكي ويروي رحلة شمس الدين بن بطوطة الطنجي إلى مكة المكرمة، وقد أُنتج الفيلم بالتعاون مع مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ومركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وكلف الفيلم 13 مليون دولار غير التكاليف العينية والفنية والموارد البشرية من المملكة العربية السعودية، تدور أحداث الفيلم حول الطريق الشاق الذي سلكه ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري من بلدته في طنجة بالمغرب عبر الصحراء لأداء فريضة الحج، متكبداً المخاطر والصعاب خلال رحلته الطويلة التي أخذته من القاهرة إلى دمشق ليصحب الركب المسافر إلى الحجاز، ويمزج الفيلم بين الصورة التي كان عليها الحج في الماضي، وتلك التي يبدو عليها الآن. استغرق تصوير الفيلم 4 سنوات، في كل من المغرب ومصر والسعودية، وترجم إلى عدة لغات من الفرنسية والروسية والإنجليزية. وحاز على ثلاث جوائز في مهرجانات مختلفة (هيوستن. بوسطن. باريس) وهو من الأفلام المعتمدة من ناشونال جيوجرفي، عرض الفيلم في 24 مدينة حول العالم، وشاهده أكثر من نصف مليون مشاهد، ورغم ما تمتع به الفيلم من إخراج مذهل، وتقنيات عالية استطاعت تحريك الشخوص والأمكنة، وسلطة الطبيعة، ورهان التحدي، وأهوال المكابدات، ولكنه قصر في تفعيل المنطق الروحي، وحضور الذات المتجلية والغارقة في الروحانية المفرطة التي تحركها جذوة الإيمان، وفيض الاحتدام العاطفي. لقد خلع بطل الفيلم الحالة الوجدانية، والانجذاب الفطري، والهاجس المتأجج في صدره ومشاعره لبلوغ مكة المكرمة والارتواء بعد رحلة الظمأ والتشوق، ليتحول إلى كائن أسطوري ومغامر عنيد في مشهد يصرف الرائي عن المبتغى المثالي من الرحلة. إلى فضاء ومنحى لا يناسب اللحظة والهدف الذي أراد صانعو الفيلم الاحتفاء به، وترسيخ حضوره في ذهن المتلقي. إن هدفهم نبيل. وغايتهم متعالية. ولكن تعميق الحس الروحي في مجرى النفس البشرية عمل صعب. يتطلب اقتناص الومضة. وإشعال الأماكن المواربة. وإقامة جسر من العلائق تفتح مغاليقها. وتقتحم سكونها فتشعر برغبتها العارمة في بلوغ ما تختزنه من استغراق حلمي هاجع في داخلها لكي تصل إلى ذروة الشعور بروحانيتها وجوهرها الصافي. للسينما سطوة متعاظمة إذا وظفت واستثمرت بأسلوب منطقي مقنع، واشتغال مؤسسي عبر نظام معرفي، واستراتيجية محكمة، وبرهان قاطع، فلدينا وفي سجلاتنا العربية والإسلامية من القضايا والممارسات التاريخية ما يستحق أن نطوف به الكون لما له من قيمة إنسانية وأخلاقية.