لا بد أن نعترف بأن لدينا مشكلة في الحوار، فنحن لا نعرف كيف نتحاور مع بعضنا.. ولو نظرنا حولنا لرأينا أن جل مشكلاتنا على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع بل والعالم ترتبط بشكل أو بآخر مع قضية ممارستنا للحوار.

ولا بد أن أعترف بأنني لم أفهم المعنى الحقيقي للحوار إلا عندما بدأت رحلتي مع الذات، فاكتشفت أن معظم نزاعاتي مع من حولي كان مصدرها ومنبعها الـ(أنا) التي فيَّ، الـ(أنا) الصورة الذهنية الوهمية لما كنت أظن أنه أنا، ونظرت لمن حولي بعين غير تلك التي كنت أرى بها، فرأيت عالماً كثرت فيه الصراعات، وتعددت فيه أوجه النزاعات، نزاعات بين أفراد الوطن الواحد والمجتمع الواحد، بل والأسرة الواحدة، صراع أهداف وغايات، أو صراع قوى ومصالح ومناصب ومكاسب وماديات، وتقلب الإنسان بهذه الصراعات والنزاعات من عثرات إلى عثرات، ومن معاناة إلى معاناة، بحر متلاطم الأمواج في الظلمات، والإنسان عالق في وسطها لا تقبل منه صلوات ولا دعوات، وقد قلت الخيرات فلا تسمع إلا أصوات معاناة الإنسان آهات وآهات.

بحثت في دراسات أسباب الصراع فوجدت أن الباحثين يرجعون أسباب التنازع والصراع إلى أسباب شتى، أبرزها التنافس على الموارد البشرية، إلى طلب الجاه إلى طلب السلطة السياسية وحب السيطرة واختلاف الأفكار والتوجهات وتداعيات الماضي وما خلفته في النفوس من شعور بالغبن وبالظلم أو البغض أو الحقد والكره، وثقافة صناعة الحروب لبيع السلاح، وتسخير الإعلام الموجه المغرض لخلق النزاعات لتحقيق مصالح تجار السلاح.

ولكن بنظرة فاحصة عميقة ستجد أن كل هذه الأسباب ما هي إلا أعراض لمرض واحد، وأن المسبب الحقيقي الذي يختبئ هناك وراء كل فساد وكل نزاع اسمه الـ(أنا) الذي يغذيه الشيطان فيدفع بالإنسان إلى الهوى في محاولة إشباع الـ(أنا) بشتى الوسائل والطرق، وليس ما يعزز الـ(أنا) أكثر من أن تشعر أنها محقة وأن الآخر مخطئ، راجعت نفسي.. هذا صحيح، عندما كنت أدخل حواراً وأثبت أن رأيي صحيح ينتابني شعور بالنصر. إنها الـ(أنا) والتماهي مع الـ(أنا) نستمد بها شعوراً أقوى بماهيتنا، وعندما نكون محقين فإن الـ(أنا) تحس بالتفوق الذي تلهث وراءه.

إنها قصة أول خطيئة على وجه الأرض، قصة أول ابني آدم وحواء، قابيل وهابيل. لم يكن قابيل يحاور أخاه هابيل، ولكن الـ(أنا) التي كانت فيه نازعت أخاه فضلاً كان الله له مؤتيه.. قصة تتكرر عبر الأزمان، تتغير صورها وأشكالها، ولكن أصابع الاتهام تشير دائماً إلى متهم واحد، هو الـ(أنا) في الإنسان.

الـ(أنا) تحاول أن تشعرك أنك أهم من غيرك، أنك متفوق، أنك على صواب، وإذا رأيت نفسك من خلالها فإنها تؤهبك للقتال في أي لحظة وأي مكان لإثبات صوابها والدفاع عنها، فينقلب الحوار إلى نزاع كأنك تدافع عن ذاتك وعن كيانك.

راجعت نفسي.. كم من المرات في حياتي انقلب الحوار إلى نزاع وكأني أدافع في الحوار عن ذاتي وعن كياني وعن هويتي، وأحاول الفوز بأي ثمن؟ ولكن هل هناك دوافع فسيولوجية تدفع الإنسان ليحول الحوار إلى نزاع؟

في كل مرة يدخل فيها الإنسان نزاعاً أو صراعاً فإن أجزاء من الدماغ تحث لتهيئ الجسم لمواجهة المعركة القادمة، وأهم هذه الأجزاء يسمى (limbic system)، ولكن هذا الجزء هو المسؤول أيضا عن إفراز هرمون الدوبامين، هرمون السعادة الذي يفرز أثناء الفرح والمرح والنجاح والنصر وممارسة الجنس والأكل وحتى التسوق، وممارسة جميع الأعمال الممتعة التي تفضي إلى الإحساس بالسعادة، وهذا سبب إدمان الناس على كل ما يؤدي إلى زيادة إفراز هرمون السعادة.

وكل نزاع وصراع يؤدي كذلك إلى زيادة إفراز هذا الهرمون، وبذلك فإن الرغبة في تحويل الحوار إلى نزاع على مستوى اللاوعي لها تفسيرها الفسيولوجي، بل وكثير من الناس مدمنون على الجدل والنزاع الشفوي، فهو يوفر لهم الإحساس بالحياة والنشوة والسعادة، وما أكثر من نشاهدهم في البرامج التلفزيونية وحياتنا اليومية، إنهم يعيشون على الجدل الساخن والنزاع والصراع الشفوي، إدماناً على هرمون الدوبامين الذي يتضاعف إفرازه عشرات المرات في حالة الإحساس بتحقيق الانتصار في ساحة الجدال. هنا استحضرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً).

الـ(أنا) تأخذ كل شيء على محمل شخصي، وينشأ عن ذلك المشاعر والحس الدفاعي بل العدوانية، إنه انحياز المحاور للـ(أنا) التي فيه أكثر من البحث عن الحق والحقيقة، ولو كان الدفاع عن الحق هو ذريعة المتحمسين والمتعصبين له، فلماذا لم يؤد تكذيب الناس للأنبياء إلى إحياء مثل هذه المشاعر العدوانية في نفوس الأنبياء دفاعاً عن الحق والحقيقة؟ لأنهم لم يعرفوا أنفسهم من خلال الـ(أنا) التي فيهم وإنما من خلال ذواتهم الربانية.

نظرت إلى نفسي وإلى الناس من حولي فأدركت كم منا من يعيشون تحت سيطرة الـ(أنا) بشكل دائم، ولذلك نرى أنفسنا دائماً على صواب ونرى الآخرين على خطأ، سألت نفسي: هل يمكن للناس أن يختلفوا مع بعضهم في حوار من دون حدوث نزاع؟ قادني سؤالي إلى البحث فوجدت أن الذي يميز النزاع عن الحوار واختلاف وجهات النظر هو وجود العواطف والمشاعر السلبية، ولذلك كل نزاع بالتعريف يحتوي في داخله على (أنا) فيها عواطف ومشاعر سلبية، ولذلك لا يفض النزاع إلا بحل هذه العقد الداخلية النفسية على مستوى العواطف والمشاعر، لا على مستوى العقل والمنطق، كالإحساس بالضيم والظلم أو عدم الثقة بالآخر أو التخوين وسوء الظن وغيرها كثير.

تعمقت أكثر فوجدت أن الـ(أنا) تحول دائماً الحوار إلى نزاع، لأن الـ(أنا) تعريف مسبق بالأشياء، هذا جيد وهذا سيئ، هذا خير وهذا شر، وكأن للأشياء وجوداً مستقلاً بذاته، وذلك نتيجة الاعتماد المفرط على الأفكار وعلى العقل، وبذلك يتجزأ الواقع، وهذا التجزؤ هو وهم قد يبدو حقيقياً جداً بالنسبة لي عندما أعتقد أني أفكر في مصلحتي أنا فقط، ولكن الحقيقة أبعد بكثير من ذلك، الكون ليس كذلك، الكون لا يقبل التجزئة والتقسيم، كل ما فيه متداخل ولا شيء فيه منعزلاً عن الآخر، وتفكير الـ(أنا) في مصلحتها فقط دون مصلحة الآخر هو وهم ستدفع الـ(أنا) ثمنه عاجلاً أم آجلاً.

وفي مقال قادم بإذن الله سنتحدث عن الـ(أنا) بين الحقيقة وبين الرأي، وكيف يستطيع الإنسان في صراعه مع الـ(أنا) أن يميز بين الحدث وتفاعله مع الحدث، أو بين الوضع وبين ردود فعل الوضع والغضب الذي ينتابه تجاه عواطفه.