في صحيفة الحرية التركية قال أحدهم لن نحتاج بعد اليوم لجيوش سليمان القانوني لاجتياح أوروبا؟ نحن نجتاحها الآن بالقنبلة الديموجرافية، فالأتراك في ألمانيا سيرتفع عددهم عام 2050 إلى 7 ملايين نسمة، وفي عام 2100 سيكون في ألمانيا 35 مليون تركي، في الوقت الذي يتشيخ فيه المجتمع الجرماني.

هذا الكلام رأيته على شكل كاريكاتير في المجلات الألمانية من مجموعة من العجز يعتلون ظهور قوم كهل، وهم بدورهم يعتلون ظهور قوم أصغر سنا، لتتوالى السلسلة فيعتلي الكل ظهر رضيع جالس على وعاء تفريغ حاجياته (النونية) وبيده رضاعة يمص منها الحليب. لقد نشرت هذه الصورة أيضا في كتابي عن اجتياح الإيدز العالم، (الإيدز طاعون العصر) وأذكر جيدا المدينة الألمانية الشمالية التي تخصصت فيها في الجراحة، وهي مدينة يشتد فيها الريح تدعى ميناء القيصر جليوم (فيلهلمس هافن Wilhelmshaven) وكلمة هافن تعني الميناء باللغة الألمانية.

كان تعداد سكان المدينة حين بدأت رحلتي للتخصص فيها في مشفى راينهارد ـ نيتر ـ يبلغ مئة وألفا، وحين غادرتها عام 1981 نزل العدد إلى مئة ألف، حسب الإحصائيات التي اطلعت عليها.

وهذه الظاهرة خطيرة جدا في تشيخ المجتمعات، وهناك مخطط أو صورة يمكن من خلالها معرفة حالة المجتمع، هل هو شيخ أم شاب أم بينهما سبيلا؟ وذلك بالانتفاخ من وسطه؛ فهو عامر بصغار السن، أو مفلطح الرأس فهو شيخ، أو سمين الأقدام فيكون غاصا بالأطفال. والمجتمع الألماني هو من النوع المفلطح، والمتوقع في عام 2050 أن يتقلص المجتمع 12 مليونا من الأنام بما يعادل تفريغ كامل لدرزن من مدن حواضر المجتمع الألماني مثل كرفيلد وبرلين وأوكسبورج وبون وإيسن، ويزداد فيه كبار السن على نحو خطير، مقابل صغار السن، معظمهم فوق الستين و15% فوق الثمانين ثلثهم من المصابين بالخرف والزهايمر والعته الشيخوخي.

وليس هذا القدر خاص بالمجتمع الألماني بل هو قدر المجتمعات الصناعية ذات الرفاهية العالية مثل السويد واليابان وفرنسا.

وفي اليابان مثلا سيتقلص عدد السكان في عام 2050 من 127 مليونا إلى 95 مليونا بخسارة 32 مليونا من الأنام، معظمهم ختايرة وعجايز. والسبب هو مشابه لما يحدث مع كبار السن وعدم تحملهم الصغار، وقبل أيام زارتني عائلة معها ثلاثة أطفال فزاغت عنهم الأبصار، ولم نعد نسمع سوى أصوات الخبط واللبط ومظاهر الفوضى، والبزورة ـ عفوا ـ منهمكون في حفلة البعثرة والتحطيم، وبالطبع انخلع قلبي، وأعرف عن سيارات البيت الانتيك التي اشتريها أنها أصبحت أنقاضا منذ فترة طويلة.

التفت إلي الزائر وأنا أطلق صيحة رعب مع كل تحطيم في أغراضي الموزعة بإناقة وعناية تحت متناول أصابعهم الصغيرة ونظراتهم الزائغة في متحفي، وقال يبدو أن من يزورك يجب أن يكون (Plus 18) أي متجاوزا عمر 18 سنة. وهنا تذكرت مقابلة مع روائي بريطاني مشهور وبجنبه زوجته من كازاخستان وعمرها 38 سنة وهو قد تجاوز السبعين، حين يصف زوجته الجديدة وحياته السابقة مع الأطفال؛ هم وحوش فعليون حتى ينضجوا في الـ18؛ بعدها يعقلون إن عقلوا. ثم يتابع: وأنا وزوجتي نوينا أن نعيش حياتنا بدون أطفال... إنها نعم الصديقة معي.

وفي يوم جاءتني ثلاث عائلات في عطلة من أجل الاستفادة من الوقت في أبحاث فكرية؛ فأصبت بالرعب من قفز خمسة أطفال دفعة واحدة ما يعادل دخول قطيع من القرود إلى المنزل. ثم سمعت رنين كف مرعب نزل من يد ذكر على وجه أنثى وهو يقول أنا ولد يحق لي ضرب البنات. التفت إلى الآباء والأمهات وقلت لهم انسوا الفكر والقلم والقرطاس وليركض كل منكم خلف ابنه وابنته ولينتبه أن لا يتخرب شيء.. فهذه هي حقيقة الأطفال مكابدة ومطاردة وتعليم وتوجيه لا يقف على مدار الساعة. فهذا هو ما يحدث بين جيل وجيل، الصغار بانطلاقهم وعفويتهم ومحاولة اكتشاف كل شيء وخلالها التدمير. وبين كبار السن الهادئين الذين يودعون العالم بهدوء كما جاء في فيلم جيدون بعد أن يتملكهم ذلك الشعور أن ليس من جديد في العالم للاكتشاف، فالحياة صيرورة والشيخوخة توقفها؟.

لقد حاول باحث نفسي إحصاء الطاقة التي يصدرها الطفل وهو يلعب، فحاول تقليده وبقي على هذه المحاولة حتى وقع إعياء نصف مقتول. هذا الجدل بين الصغار والكبار يشبه تماما الجدل بين فتوة المجتمعات وتشيخها.. موعظة للغافلين وذكرى للمتقين.