لكل العصور ذاكرة مستعادة، تحفظ المعتق من القول والكثير من التدفقات التي تصنع التغيرات الأدبية في الشكل والرؤية، مع ما يصاحبها من الاحتكام إلى الذوق العام رفضا أو قبولا.

والقصيدة العربية مرت بمراحل من السكنات والحركات والصراعات، والارتواء والجفاف والثبات والمروق والذبول والتفتح، ما جعلها مدعاة للنقاش والجدل وبالذات هاجس الخروج علي "الأبوة" والركون إلي التحرر من بنيتها الشعرية الخليلية ومداراتها الموروثة وإيقاعاتها المحتدمة وتقاليدها المشروطة، فظهرت القصيدة الحديثة والمعاصرة بهيئتها وكيفيتها ورنينها الذي لم تألفه الأذن العربية بفعل العشرة والمرجعية والنسق المعيوش، ما جعل الكثير من شعراء القصيدة العربية البيتية يرفضون تلك التوسيعات والتنويعات والمناورات والمسميات التي تسعي إلى تفكيك أواصر القصيدة الموروثة، وسلبها عافيتها ومأواها وتجفيف جسدها وإرهاقه وهدم جدرانها وسقوفها، والعبث بكينونتها وهيبتها وتجريدها من ثيابها ومصاغاتها كما تصوروا.

وكان أعذب من قرأت له "شعرا" ضد هذه التحولات والتداعيات الشاعر السعودي الكبير "محمد علي السنوسي" الذي هاجم "الشعر الحر" في حينه وليس قصيدة "النثر"، ففي مرحلته لم تكن القصيدة النثرية قد تسيدت التجارب الشعرية، وهيمنت علي مجمل الخطاب والنسيج الشعري العربي، رغم أنه أشار إليها في هذه القصيدة: "لا العود عودي ولا الأوتار أوتاري.. ولا أغاريدكم من شدو أطياري، من أين جئتم بهذا "الطير" ويحكموا؟!.. لا الريش ريشي ولا المنقار منقاري، إني أري في جناحيه وسحنته.. سمات "اليوت" لا سيماء "بشاري".

ويستحضر السنوسي صورة قصيدة الشعر الحر، فيصمها بالجمود والهذر والركام العابث والملفوظ الأعرج: "قصيدة النثر مثل المشي جامدة.. والشعر كالرقص في ترنيم قيثار"، ورب حرف صغير الشأن يرفضه.. والشعر كالرقص في سيقان أبكار، تأبي الحروف التي صيغت نماذجها.. من رعشة الروح في أعماق أسرار، أن تلتقي معكم في سبك خاطرة.. عرجاء تحجل في ميثاء مهيار"، والميثاء هي الأرض اللينة والسهلة والرابية الطيبة.

لم يمارس السنوسي الإلغاء للآخرين أو يتقصده، احتكارا للقيم الشعرية أو رفضا للانفتاح علي الآخر، فهو يؤمن أن التراث لكل أمة توالدي وتمازجي، ولكنه يرفض قتل الآباء والقطيعة مع التراث والقفز علي الماضي، ويحدد في قصيدته مسارات التجديد المفصلية والوظيفية، وتأصيل التجربة وترسيخها داخل المشهد الشعري حين يقول: "إن كان لا بد من فن نجدده.. فجددوا في مضامين وأفكار، وأنطقوا الصخر في ترنيم قافية.. كرعشة الضوء في لمع السنا الساري، حرية الشعر في إشراق فكرته.. وفي تساميه عن لغو وأقذار، والشعر نور ونار والنفوس لها.. طبع الفراشات عشق النور والنار، ورب ذي قلم أعطي لأمته.. ما ليس يعطيه فيها نهرها الجاري".