تبدو الفكرة الفيدرالية مناسبة جدا لتغيير حالة ووضع الوطن العربي المفكك والمرتبك على مستويات مختلفة، كالدفاع المشترك والسياسة والاقتصاد والثقافة، وهي مخرج سياسي سيغير كثيرا من واقع العرب السياسي المشتت بالدرجة الأولى، وكذلك ستقلب نواتج الواقع الاقتصادي الهزيل، ما يجعلها تقف أمام التحديات المستقبلية للعالم المتغير بكل ما فيه.

فالدول الاتحادية بالعادة تستثمر الفكرة الفيدرالية، لإبراز مقدرات المواقع الطبوغرافية لكل ولاية، وتؤكد على ضرورة التركيز على إبراز مقدرات كل ولاية على حدة، وتقديم ما تستطيع التميز به عن غيرها، وهنا تكمن قوة اقتصادات الفيدراليات في العالم.

فالبحث عن القوة العربية المطلوبة اليوم، يؤكد أننا بحاجة ماسة إلى الحل الفيدرالي في الوقت الراهن، لمواجهة التحديات القادمة، وأنه لا بديل عن فيدرالية عربية تمنح المنطقة والعالم التوازن المطلوب سياسيا واقتصاديا.

الوطن العربي هو المكان الوحيد في العالم على الكرة الأرضية، المهيأ تماما لنجاح فكرة وتطبيقات النظام الفيدرالي، والتحول إلى لاعب سياسي ثقيل وإلى قوة عظمى عالمية.

فهناك من العوامل المشتركة الكفيلة بدعم إحداث القفزات الإيجابية الناجحة تلو الأخرى، وعلى كل الأصعدة، فهذه المنطقة من العالم تتحدث لغة واحدة، وتدين بدين واحد، ولها خصائص أيديولوجية واحدة تقريبا، وتشرف جغرافيا بسواحلها الشمالية على كل جنوب أوروبا، وشرقا على آسيا، وباستطاعتها أن تتحكم في العالم بأسره من خلال المضايق البحرية التجارية كمضيق باب المندب، ومضيق هرمز ومضيق جبل طارق، وأرضها تحتوي على أهم وأثمن المواد الخام "الروماتيريال" الذي تحتاج إليها الصناعات العالمية اليوم.

ما جاء أعلاه هو ترجمة مقاربة لوثيقة "كامبل باترمان" التي صدرت على إثر ما عُرف بمؤتمر كامبل عام 1907، بمشاركة سبع دول أوروبية، إذ اختتم أعماله بعبارة: "ولا بد من أن يبقى ضعيفا ممزقا".

هكذا يرانا وهكذا يفكر العقل السياسي الغربي فينا وفي أوضاعنا وهكذا يقيّموننا، بينما يفكر معظم السياسيين العرب في التغول على شعوبهم وتكريس الاستبداد وقهر مواطنيهم، وكأنهم ينفذون أجندة مؤتمر كامبل بالتفصيل.

لذا لن تستطيع هذه الأمة العربية بهذا الوطن الكبير الذي تترامى أطرافه من الانتباه والوجود عالميا بشكل فاعل في مشروع البناء العالمي، إلا بتغيير عقلها السياسي القديم، واستبداله بالعقل الذي يفكر في البناء، والتخلص من تبعات عقلية الأنا السياسية الأنانية العقيمة.

لا أريد الخوض في احتمالات الصواب والخطأ فيما يحدث على الساحة السياسية العربية الآن، فما يحدث في اليمن هو أحد الإفرازات للوضع العربي المفكك والمتباعد الهموم والمصالح، وترجمة عملية لخبث السياسة وبراغماتيتها، وهي سمة السياسة المعهودة منذ أول مولد لها في التاريخ. والواضح أن هناك مواقع عربية مهمة جدا قد تركت فريسة الجوع والفقر والحاجة، لتبتلعها أنظمة سياسية أخرى من خارج المنظومة العربية، جعلت منها ملعبا جانبيا لمشاريعها السياسية المستقبلية، ولتصفية حساباتها مع خصومها من أقاصي الأرض وأدناها، وهو حق مشروع في أعراف السياسيين، ومبرر في ضمائر الجوعى ويوميات الفقراء، فالبطون الخاوية لا تفكر فيما هو أهم وأبعد من ملء البطون، ولن تبحث بعيدا في أحلامها عن أكثر من لقمة العيش.

وتبدو الخارطة اليمنية بكل تراكيبها جزءا مهما من الوطن العربي بوضعه الاستراتيجي جغرافيا وطبيعته الديموغرافية وتركيبته السكانية، إذ يعدّ اليمن مخزنا بشريا هائلا لليد العاملة، يستطيع تغيير ملامح الوجه العربي إذا ما تم استثماره، وتوجيه طاقاته نحو العمل الجاد.

لذلك تسعى كثير من دول العالم إلى الاستحواذ عليه، واستثمار مقدراته لتسيير مصالحها السياسية تحت غطاء الدين تارة، وتحت الشعارات الثورية البائدة تارة أخرى، وتبدو إيران أخبث اللاعبين في المشهد اليمني، لأن نواياها ومخططاتها وأحلامها تتجاوز اليمن بكثير حتما.

وتأتي عمليات "عاصفة الحزم"، لتضع حدا لمشاريع التوسع الأجنبية في اليمن، وتعيده مجددا إلى الصف العربي وإن كان غير متراص في مشهده الحالي.

لكنني أراهن -وتذكروا كلماتي هذه- أن ما يحدث حاليا في الساحة اليمنية هو استعداد للدخول في مشروع الفيدرالية العربية الكبير، المشروع الذي طالما حلمنا به، لخلق أمة عظيمة تستطيع الاعتماد على نفسها، بعد أن انكشفت ألاعيب السياسة الغربية تجاهنا كعرب، وأننا لسنا في نظرهم أكثر من بيادق على رقعة ملعبهم العالمي، وتذكروا أن اليمن سيكون شرارة البداية الحقيقية لتطبيقات عملية على أرض واقع المشروع الفيدرالي العربي، يحولنا إلى أمة منتجة ومؤثرة، فالمشاريع الكبيرة تحتاج إلى قرار كبير، وحزم كبير أيضا.

والواقع يقول إننا نعيش فاصلة تاريخية مهمة في ذاكرة الوجدان العربي، ستؤسس لمعاملات وأفكار مختلفة من القيم والمفاهيم العربية، سياسيا وفكريا واجتماعيا وأخلاقيا، تسقط معها ذاكرة وتتشكل ذاكرة، وهذه سنّة كونية، حتى وإن كانت الإشكالية في أنها قد تحمل بين طياتها أجنة مشوهة لمستقبل غير معلوم الملامح.

ولو تمنيت شيئا للمستقبل لتمنيت أن تنهض الأمة العربية كما نهضت أوروبا واليابان بعد الحربين العالميتين.