خطأ بريء ارتكبته قبل أيام دفع الزميل الصحفي السوري خالد حمادة إلى معاتبتي مانحا إياي فرصة الحديث عن المسكوت عنه مجددا.

الخطأ حدث في مقالي السابق الذي نشرت فيه بوستا نسبته إلى مجند سوري "علوي" مناوب على حواجز النظام السوري بعد أن قرأته على صفحته الفيسبوكية، الشاب الذي استخدم اسما مستعارا نشر المقطع دون أن يذيله بأي اسم آخر أو بكلمة "منقول" كما جرت العادة بين مرتادي الفضاء الأزرق عند الاقتباس، ما جعلني أعتقد أنه هو صاحبه، لا سيما أني اعتدت سابقا قراءة بوستات مناوئة للنظام على صفحته.

البوست الذي استوحيت منه عنوان مقالي "حوثيو إدلب" لم يكن سوى مقطع من مقالة حملت العنوان ذاته للزميل خالد ونُشرت في الموقع الإلكتروني لقناة الأورينت "المعارضة". وبما أني لست من متابعي الأورينت لم أنتبه إلى التشابه، وحدث بيننا ما حدث من التباس في مصدر البوست وصدفة في تشابه العنوان، ما يُلزمني بالاعتذار من زميلي عن خطئي غير المقصود والذي ورطني به صديقي الفيسبوكي "المجند".

هذه الورطة فتحت عيني على المشهد الغائب: المجندون الإلزاميون لدى النظام السوري وربما بعض العسكريين المتطوعين قبل الثورة، يتسمرون على الحواجز، يلتحفون عراء البرد وقيظ الشمس، عظامهم مرتجفة، وجوههم مسمرة، عيونهم شاردة تستعيد رائحة أمهات وحبيبات غيبتهن المسافة، أصابعهم مرتعشة على أُهبة زناد الموت المحتمل، قلوبهم متاخمة للتوقف عن الخفقان في كل لحظة إثر هجوم مباغت يضعهم في مواجهة إخوتهم في الوطن، ويصنفهم عبر مقارنة جائرة مع من اختاروا القتل طوعا. في زحمة جنون الدم لا فرصة للتمييز بين مُكرَه على القتال وبين قاتل، الرصاصة عمياء ليس لها بصيرة، وبين انحسار الحياة وطوفان احتمالات الموت يسرق "القتلة المُكرَهون" بعض أحلامهم المؤجلة: ابتسامة هنا، دمعة حارة هناك، مكالمة هاتفية تحمل أصوات الأهل، وداع يومي، بعض المسرات الضئيلة، وقليل من التواصل مع عالم خارجي مغاير لعالم "نظام الأسد" يعبرون إليه عبر ما يتيحه الجوال من وسائل إعلامية مؤيدة ومعارضة، وأيضا صفحات التواصل الاجتماعي.

"حسين" المتواجد على الحواجز منذ بدء الثورة كان بينهم، يمسك بندقيته بيد، وجواله في اليد الأخرى، وبين اليدين تضيع الحقيقة التي قتلها الجميع.

يتابع الأخبار المؤيدة وإعلام الثورة، عيناه تبحثان عن بارقة أمل تنقذه من موته المحتوم، لكنها النهاية، لا النظام يوقف قتل مناوئيه ويُفرج عنه، ولا المعارضة المسلحة تغفر له قدره هذا فتعتقه من أسرِ موته.

حسين "العلوي" الذي يقف على الحواجز مرغما، قرأ ما كتبه خالد عن سيطرة الكتائب المعارضة على مدينة إدلب وعن هروب الأهالي المؤيدين فيها خوفا من انتقام زجوا أنفسهم به رغما أو طوعا ليكونوا "حوثيي إدلب"، ونشره على صفحته الافتراضية الهاربة من أزيز الرصاص دون أن يحيله إلى صاحبه الأصلي، لأنه ببساطة تبنى محتواه: كل كلمة فيه تمثله، وتحكي خوفه وألمه، هو الذي كتب سابقا "أشعر أننا نعاج تنتظر الذبح"، "أريد أن أعرف لأجل من نموت؟ "لا أريد أن أفدي أحد بدمي، أريد أن أعيش فقط"، "أبناؤكم فدا صرماية السيد الرئيس أيها الفقراء أما الأغنياء فيعيشون".

في غمرة الحزن والعبث استطاع خالد أن يصل بصوته المكتوب إلى ضمير حسين وخنادق القتال المشتعلة دون أن تمنعه القنابل العابرة لدماء أبناء الوطن الواحد. وماذا بعد؟ هل الصورة تقف هنا؟

للأسف لا، فمقابل صوت خالد هناك آلاف الأصوات الطائفية الحاقدة تنتشر على صفحات الفيسبوك وبعض وسائل إعلام الثورة ومنها الأورينت، تعميم، عنصرية، تكفير، شيطنة الآخر، فتاوى بالقتل، فطائس، تم الدعس، خنازير، يهود، نساء فاسقات، جيناكم بالدبح يا نصيرية، كلها تصل أيضا دون غربلة، ولدي أدلة كثيرة على ما أقول.. كلها تخدم النظام وتؤكد نظريته المفترضة "الثورة إرهابية وطائفية".

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لخدمة من كل هذا التجييش الطائفي؟ أليس هو مقتل الثورة؟ كيف يمكن لعسكري أو مدني أن يأمن جانب المعارضة أو ينضم إلى صفوفها أو في أضعف الإيمان ألا يناصبها العداء بعد تلقفه لهذا الخطاب؟ وبالأحرى كيف له أن يصدق أننا - المعارضين - لسنا "إرهابيين"؟

ذات يوم استقلت من إعلام النظام لأني اعتبرته شريكا في قتل السوريين عبر الكلمة، وقد آن الأوان على ما يبدو لأستقيل أخلاقيا من هذا الإعلام المعارض للأسباب نفسها، رغم اختلاف المواقع والطرائق والذرائع اللاأخلاقية في كلتا الحالتين.

الكلمة تقتل كما الرصاصة، فاسحبوا أصابعكم الملوثة من دمنا أيها القتلة... ولا تعودوا.. لأن سورية لم تعد لكم.

إنها فقط للسوريين.