موضوع هذه المجموعة من المقالات هو العنف والأنانية امتدادا للحديث الأصل عن النمو الأخلاقي وقيمة العدالة. العنف هنا مفهوم بمعناه الواسع بحيث يشمل كل سلوك يقوم به الإنسان وكأن ليس لمن حوله إلا استقبال نتائج أفعاله. العنف هنا إذن كما يؤكد لافيناز جوهر كل فعل غير تعاوني. التعاون هنا يعني أخذ الآخر بعين الاعتبار المساوية لاعتبار الذات حين الفعل. أو بعبارة أخرى كل فعل لا ينطلق من مسؤولية الإنسان تجاه الآخرين. هذا يعني أن العنف هو نتيجة حتمية لكل سلوك تتراجع فيه الأولوية الأخلاقية لصالح أولويات أخرى علمية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية. المقالة السابقة ناقشت عنف الأناني المصارع واليوم موضوعنا عنف الأناني المنغلق على ذاته. الأناني المنغلق على ذاته يعيش داخل هذه الفكرة الأساسية: أنا أحتاج للمساعدة.. قدرتي على مساعدة الآخرين محدودة. المنغلق على ذاته نوافذه مفتوحة على الاستقبال فقط. لا يعني ذلك أن المنغلق على ذاته لديه موقف عدائي تجاه الآخر بالضرورة ولكن الآخر لديه ثانوي وبعيد، ومفهوم في سياق احتياجات الذات لا أكثر. في تحليلنا السابق قلنا إن الانغلاق على الذات قد ينتج عن أسباب مختلفة أحدها تربية الدلال والدلع أو بعبارة أخرى التربية التي تحجب الطفل عن نتائج أفعاله. هذا الحجب يعيق تواصل الطفل مع الآخر خارج كون هذا الآخر مجرد موضوع للذات. الآخر ككائن مستقل عن كل حسبة ذاتية بعيد عن الصورة.
المغلق على ذاته عنيف من نوع خاص. بطبيعة سلوك المنغلق على ذاته فإن دائرته الاجتماعية محدودة، تتكون من أقارب محدودين وأصدقاء محدودين أيضا. العنف هنا متولّد من هذه المعادلة: المنغلق على ذاته لا يبدو في سلوكه إدراكا لآخرية الآخرين وهذا يؤديهم. هم يعرفون تماما أنه يجعل ذاته أولا، يكتفون باستمرار أنهم يغيبون عن تفكيره بسرعة، حين يحضرون معه فإنه باستمرار يسحبهم لمجاله الخاص بدون نيّة للعودة إلى مجالاتهم. من حوله يشعرون بالظلم لأنه لا يدرك ضعفهم كذلك. لكي يحيّدهم عن الصورة فإنه يجعلهم أقوياء لا يحتاجون مساعدة وهو وحده من يحتاجها. إذا علم بأزماتهم فإن أول ما يخطر على باله هو الشعور بالارتياح أنه لم يكن هو من تعرّض لتلك الأزمات. كل هذا يولّد لدى من حوله شعورا عميقا بأن هذه العلاقة لا يمكن أن تكون صحيّة بهذه الشكل. هذا الإنسان يطالب بعطاء لا ينتهي وليس لديه الاستعداد لمبادلة العطاء. في الوقت ذاته فإن هذا المنغلق على ذاته على خلاف الأناني المصارع لا يزال يحتفظ بمشهد من الضعف يجعل من حواليه يشعرون تجاهه بالرحمة والعطف، وبالتالي لا يستطيعون مغادرته بالكامل. لذا فإن المحيطين بالمنغلق على ذاته عالقون بين حالتين مؤلمتين: الأولى علاقة أنانية تحتاج منهم التضحية المستمرة والثانية مشاعر بالرحمة والعطف تمنعهم من مغادرة هذا الإنسان والابتعاد عنه.
هذه الجدلية بين الشعور بالظلم والشعور بالواجب تجاه ذات الشخص لا يستطيع تحمّلها إلا من أصبحت علاقتهم مع هذا الإنسان متجاوزة لاختياراتهم. بمعنى أنها أصبحت جزءا من قدرهم في الحياة. في النهاية نصل إلى المشهد المتوقّع من الأناني وهو أن لا يبقى حوله إلا أمه ومن هم في مثل قدرتها على العطاء اللاإرادي. هذا النوع من العلاقات أقرب لعلاقات التضحيات أحادية الجانب. العلاقات التي تتأسس على غياب الذات في الآخر وتحولها إلى إحدى فعالياته الخاصة. هذه العلاقة تعيد بالمنغلق على ذاته إلى حالة من الألفة باعتبار أن هذه العلاقة تحديدا هي تلك التي نشأ عليها برعاية من حوله. هذا الطفل الأناني نشأ على أن يظهر الآخرون من حوله في أفقه الذاتي أي مفهومين داخل حساباته الخاصة. عملية "الردّ" هذه، رد الآخر للأنا، هي جوهر العنف في هذه العلاقة لأنها باختصار تقوم بتدمير الآخر وتحويله إلى ملكية خاصة. هنا يمكننا الحديث عن عملية استرقاق من درجة مختلفة. الرق التقليدي يعني أن يمتلك إنسان إنسانا آخر. بمعنى أن تكون حياة، وجود، تجربة المملوك لا معنى لها خارج حياة، وجود، تجربة المالك. العلاقة هنا هي علاقة ردّ المملوك للمالك. لذا حين يهرب المملوك فإن عمليه "ردّه" أو "إعدامه" تنطلق مباشرة. لا معنى لحياة المملوك خارج الدائرة التي ترسمها ذات المالك. في المقابل فإن عملية علاقة الأناني المنغلق على ذاته هي عملية استرقاق، ولكن من طرف الضعيف هذه المرّة. استرقاق لأنها تتضمن ردّ الآخر للذات. الآخر خارج حسبة المنغلق على ذاته يختفي أو بتعبير آخر يموت. يحكي جون ديوي عن أفلاطون أنه عرّف العبد على أنه من يعيش لينفّذ أهداف غيره. البقاء في علاقة مع المنغلق على ذاته تعني شيئا مقاربا لذلك. الخروج على هذه العلاقة يعني فتور العلاقة مع المنغلق على ذاته، فهو لا يعلم ما يفعل بك سوى أن يجعلك أذنا منصتة. حين تطالبه بالاستماع لك كذلك فإنه تبدو غير مفهوم ومزعجا وتتحول العلاقة إلى علاقة من طرف واحد. المنغلق على ذاته لا يعرف كيف يكون أذنا منصتة. الأذن لديها القدرة على الاستقبال والانفتاح على الجديد والمختلف على خلاف اللسان. المنغلق على ذاته لا يجيد الاستماع ويرتاب منه ويشعر بالقلق حين ممارسته. الاستماع انفتاح هائل على الآخر، استقبال له ودعوة له بالحضور والتواصل. باختصار العلاقة مع المنغلق على ذاته مؤذية كأذى هذه التجربة "إنسان يتكلم لك كثيرا، ولكنه لا يريد الاستماع لما تقول.. يقاطعك بسرعة ليستعيد القيادة.. بعد فترة تشعر أن هذا الإنسان لا يراك إلا كأذن.. حين تبدأ بالحديث تختفي من مجال رؤيته..".