على جانبي جادة عكاظ الممتدة يميناً ويساراً، وأنا أخطو بلهفة العائد من سفر بعيد وتأمل الحذر من مغبة اضطراب الرؤية، أطلق للخيال عنانه الجامح فأسرح بامتداد فضاء الساحة الداخلية للجادة. في حضرة عكاظ وجلال المكان يتبارى الرماة برماحهم المدببة ودروعهم الثقيلة، وأزيائهم التاريخية القديمة، يتسابق الفرسان بخيولهم التي روضت جموحها تقنيات القرن الأول بعد العشرين، وتخطو قوافل الجِمال رويداً رويداً لتعبر الساحة متفرّسة في هذه الوجوه التي لم تألف رؤيتها. ألامس وجوهها الصلبة لأعود بالذاكرة الضوئية إلى ما يزيد على ثلاثة عشر قرناً. صورة بصرية مذهلة، موغلة في القدم، مغرقة في التاريخ من ماضٍ سحيق تجسد حاضراً مليئاً بالأمل. أصوات الرواة تتواصل صادحة بأبيات شعرية من المعلقات السبع وكأني أراها معلقة على أستار الكعبة، وفي المسرح الصخري مسرحيات أسطورية مفزعة أحيانا مبهجة أحياناً أخرى. وعلى الصخور أكحل ناظري بأبيات من الشعر القديم نقشت على جنبات سوق عكاظ أول محفل شعري في تاريخنا المحفوظ.

هنا، وعلى امتداد السهول والوديان وقفت تماضر بنت عمرو بن الحارث، خنساء الجزيرة ترثي صخراً أخاها، وهنا تعاكظ الشعراء وتباروا في تلاوة معلقاتهم. ترى لو عاد امرؤ القيس واعتلى هذا المسرح الصخري هل كان سيتجاوز التشبب بمحبوبته "فاطم" ويمنع وصولها إلى منصة شعره:

أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

أم أنه كان سيكتفي بالبكاء على أطلالها متحسراً:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل؟ ..

هنا يخيل إلي أنني أرى "نواراً" يحاورها لبيد بن ربيعة مفتخراً:

أولم تكن تدري نوار بأنني

وصّالُ عقد حبائلٍ جذّامها

أم أنني أرى "سعاد" تبين لكعب بن زهير فينشد:

بانَتْ سُــعادُ فقَلْبِي اليــومَ مَتْبُولُ

مُتَيَّـمٌ إثْرَهــا لَم يُفْـدَ مَكْبـولُ

هنا مازالت "عبلة" حاضرة في خيال الفارس الأسمر عنترة بن شداد يتذكرها وهو ممسك بسيفه:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيض الهند تقطر من دمي

هنا غادرت "أسماء" فضاء الحارث بن حلزة معلنة الرحيل:

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاوٍ يملّ منهُ الثَواء

هنا وعلى مسرح خيمة عكاظ تيقنت أنه هو وبكل فخر ذلك الشاب النزق الجريء في قول الحق وطلب الحرية، طرفة بن العبد، يقف شامخاً بجانب خاله "المتلمّس" معلناً بشجاعة تحديه لجبروت عشيرته التي أذاقته "ظلم ذوي القربى" لكنه لم ينس أن يسترجع شيئاً من أطياف محبوبته "خولة" فيناجيها دون خوف:

لِخولةَ أطلالٌ بِبُرقةَ ثَهمدِ

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

هنا وفي هذا الموقع الجغرافي الموغل في التاريخ، تتمثل استعادة اكتشاف المكان والزمان. هنا وبامتداد جلال المكان الذي لم تهذبه عوامل الزمن ولم تشذبه رياح التغيير تستعيد عنقاء الجزيرة العربية اكتشاف ملامح الوجدان الثقافي للإنسان رجلاً وامرأة في سوق عكاظ.

أفقت من الحلم لأقف أمام الحقيقة. حقيقة حضور المرأة اليوم بعد أن انبعثت سوق عكاظ من مرقدها كعنقاء نفضت عنها رماد السنين. عادت المرأة لسوق عكاظ في ملمحٍ حضاري جديد بعد ألف وثلاثمئة سنة لتكون شريكاً فاعلاً في هذا الحضور الاحتفالي، لا مجرد رمز يتغنى به الشعراء في مطلع قصائدهم. عادت المرأة مكرّمة على منصة مسرح سوق عكاظ لتتسلم جائزتها المستحقة من يد فارس إحياء السوق الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز. عادت منافسة على جوائز المهرجان، عادت مشارِكة في الأمسيات الشعرية والندوات الثقافية، عادت مساهمة في تنظيم هذا الحفل وكم هو في حاجة لعودتها. لماذا إذن كانت عودة المرأة للحياة إشكالية على المجتمع؟

تعوّد المجتمع طويلاً على صمت المرأة، والمرأة ذاتها تعوّدت على أن تكتفي بما يجود به عليها الأوصياء من الذكور لتقول شكراً في سرها ثم تصمت. كلاهما معذور: الرجل الذي استمرأ هذا الصمت، والمرأة التي عُوِّدت على السمع والطاعة. لكن، تغير المجتمع اليوم، وتغيرت معادلة السمع والصمت. فمهرجان عكاظ أتاح هذا العام للمرأة آفاقاً جديدة كسرت حواجز الممانعة وأسوار الشك والريبة ولو بعد عناء. في "معركة المنصة" كان من المؤسف أن يتصدى مثقفون نعتد بهم لكي يقفوا حاجزاً دون وصول المرأة إلى المنصة، وكأن هذا الوصول يهدد كياناً أو يقلل من شأن. من المؤسف أيضاً أن تتمكن المرأة من الوصول إلى المنصة في حضرة الأمير المثقف خالد الفيصل، ولكنها تمنع منها في غيابه. امرأتان فقط كانتا ضمن المشاركين في الفعاليات، وبرغم ذلك فقد أدى التأويل الشخصي لمديري الأمسيتين الشعريتين اللتين شاركت النساء فيهما إلى إحداث إرباك في كيفية المشاركة: بعيداً عن المنصة؟ قريباً من المنصة أم في منتصف الطريق؟ وفي غمرة سطوة الوصاية تجاهلا دوريهما المنشود باعتبارهما مثقفين فاعلين في ريادة التغيير الاجتماعي، وذلك من خلال إصرارهما على أن تظل المرأة بعيدة عن المنصة. لكن الممانعة تظل رهناً بمن يشرعن لها، وكأنه يتقمص دون وعي دور الوصي على حق المرأة في الظهور الكامل اللائق بها إنساناً مثقفاً في محفل ثقافي يؤسس لبناء انتهجته الدولة من روح ديننا العظيم في تكريم المرأة وفتح أبواب المشاركة الإنسانية لها لتكون شريكاً كامل الأهلية في التنمية والتطور. أليس لنا بعد ذلك إلا أن نعيد بأسى ما قاله امرؤ القيس:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل!