في الثالثة عشرة من عمري همست زميلة في المدرسة "علا أنت علوية".
لم أكن قد سمعت بهذه التسمية من قبل، وحين عودتي إلى المنزل سألت والدتي: "ماما ماذا يعني علوية؟"، كانت الإجابة صفعة قوية على وجهي المكتنز لن أنساها ما حييت: "أحذرك يا علا، لا تتفوهي بهذه الأشياء، إنها سخافات"، ومنذ تلك الصفعة أشعر بالذنب والخوف من والدتي كلما استخدمت هذه التسميات مضطرة لشرح وقائع معينة أو سياق اجتماعي يحلو للبعض صوغه وتشريحه وفق الولاءات الطائفية ما قبل المدينية، تلك التي خلقها البعض لمصالح سياسية لا تتعدى الخلاف على السلطة. اليوم أنا مرغمة على تلقي صفعة والدتي مجددا، آملة أن يخفف من حدتها خطورة ما تمر به سورية واستغلال البعض للموضوع الطائفي بهدف إغراق وإحراق أي مركب يتيح فرصة العودة إلى وطن.
لا شك أن المتابع للمشهد الثقافي السوري، النخبوي والشعبي في الوقت الراهن، سيرى ببساطة السعار الطائفي المهيمن على المرحلة، وما الضجيج الذي يحدثه أي عنوان صحفي طائفي إلا دليل على ذلك، لا سيما إن كان الحديث عن "العلويين" أو "النصيريين" كما يحلو للبعض تسميتهم.
في إطار هذا الهوس الإعلامي الدعائي والنفسي الراهن بالطائفة "العلوية" طالعنا قبل أيام أحد باحثي التاريخ كما يقدم نفسه بالعنوان التالي: "آل الأسد والعلويون واليهود: أصول وأهداف مشتركة". لا أنكر أن العنوان أثارني، فأن أصحو صباحا في إحدى الضواحي الباريسية، وفي الأربعين من العمر، لأكتشف أني يهودية أمر لا يخلو من التشويق والغرابة والطرافة.
وها أنا أقرأ: "يبتدئ تاريخ الفرق الباطنية التي جاء منها النصيريون (العلويون) بيهودي اسمه عبدالله بن سبأ، ويختتم دور التأصيل للعقيدة النصيرية بشخصية يشتبه في أن أصلها يهودي هو الميمون بن قاسم الطبراني. ثم لم يختلف أحد من كتَّاب الفرق والملل والنحل والتاريخ على أن أوَّل نزعات الغلو وتأليه علي بن أبي طالب، كانت وراءها شخصية يهودية هو عبدالله بن سبأ، الذي كان له دور كبير في أحداث الفتنة الأولى التي ابتدأت سنة (35هـ) بقتل الخليفة الراشدي عثمان بن عفان، وانتهت بقتل الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب سنة (41 هـ) أمير المؤمنين عليه السلام، إذن لم يكن من خلاف عند الأقدمين على أن الفرق الغالية - ومنها النصيرية - هي ذات أصل يهودي".
إذن، ولاحظوا معي كلمة (إذن) التي استخدمها الكاتب، لا يوجد أي خلاف على أن أصول "العلويين" يهودية، جرأة التأكيد لديه دفعتني، أنا التي تكره اليقين، لأقرأ حول الموضوع علّني أجد ما يدعم زعم الكاتب. وأعرض عليكم بعض ما وجدته:
"عبدالله بن سبأ شخصية إشكالية اختلف حولها المؤرخون، حتى إن بعضهم تحدث عن أسطوريتها وعدم وجودها إلا في مخيلة الرواة، معللين ذلك بالتناقض في الروايات والتواريخ والأحداث والمصادر التي تتحدث عنها، فابن سبأ مجهول الأب، لم يتم التأكد من مكان قدومه قبل إسلامه، بعض المصادر تقول إنه هاجر من اليمن وبعضها الآخر يذكر أنه جاء من الحيرة في العراق، ثم أسلم، وتحزب إلى حق علي بن أبي طالب بالخلافة بعد وفاة الرسول، كان يلقب بـ"ابن السوداء"... ثم إذا سلمنا جدلا أن عبدالله بن سبأ باسمه هذا شخصية يهودية حقيقية قدمت من اليمن أو الحيرة لإشعال الفتنة بين المسلمين عبر نشر الشقاق بينهم وتأليبهم ضد الخليفة عثمان بن عفان فهذا لا يدل إطلاقا على أن أتباع علي تحولوا إلى اليهودية، لأنه ببساطة كان قد أسلم، وإخفاؤه لاسم والده يوحي بعدم رغبته في كشف نسبه، ربما، خوفا من انفضاض المؤيدين من حوله، أي أنه من المحتمل أنهم أصلا لم يكتشفوا أصوله اليهودية.
بالمقابل، احتمال معرفة "العلويين" آنذاك بأصول ابن سبأ اليهودية لا يمكن أن تتيح الجزم بيهوديتهم، لأنهم ببساطة كانوا يتبعون عليا الذي أمر بنفيه، لغلوه وتطرفه وممارساته المشينة، ومن غير المنطقي أن يكون قد استخدم يهوديته لجذبهم إليه، وهو قد أسلم.
ومن الغرابة حقا أن يصل الكاتب إلى هذا التأويل الساذج متناسيا أن الدعوة الإسلامية نزلت في أرض ضمت يهودا ومسيحيين ووثنيين، وإن كثيرين منهم اعتنقوا الإسلام وأسهموا فيما بعد في نشر الدعوة الإسلامية، فهل نقول: المسلمون يهود أو وثنيون؟.. سؤال يجعل الكاتب يقع في فخ أقواله، لأن الأديان السماوية كلها استقت من بعضها البعض، وجميعنا أصولنا يهودية ومسيحية ووثنية، طبعا قبل إسلامنا، فما الفتح العظيم الذي توصل إليه الكاتب؟ وماذا يريد أن يقول؟
أيضا لا يوجد أي تأكيد ليهودية الميمون بن القاسم الطبراني الذي يعترف الكاتب نفسه أنه يشتبه في أصوله اليهودية، وثم أليس من الممكن أن يكون الطبري يهوديا اعتنق الإسلام حقا ثم تشيع، ومن نحن لنقرر ما في صدره آنذاك؟
يتابع.. "وسواء كان الطبراني يهوديا مندسا في النصيرية أو هو يهودي متحول إلى النصيرية فإن ما يثبت يهوديته السابقة أنه كان أوَّل من أدخل عقائد ذات أصل يهودي، أصبحت من الأصول الدينية للنصيرية حتى عصرنا الحالي لم يسبقه إليها أحد من أعلام النصيريين السابقين".. ويسوق أمثلة عن "احتقار العلويين للمرأة" وعن طقوس أخرى تثبت التشابه من وجهة نظره بين العقيدتين اليهودية و"العلوية"، متجاهلا مرة أخرى أن الإسلام لم يلغ أديان التوحيد، بل أضاف إليها وصوبها ومن الطبيعي أن تكون هناك قواسم مشتركة بين جميع الأديان: "إنما بعثت لأتمم عليكم مكارم الأخلاق"، كما أنه من الطبيعي أن تكون الثنائية التاريخية بين بعض "رجال الدين والسياسة" قد استغلت الظروف المتناقضة التي مر بها المسلمون في العصور الأولى بعد وفاة الرسول لتجيير بعض القوانين والطقوس والمعتقدات لصالح تقسيم المقسم، على مبدأ "فرق تسد"، وجميعنا يعلم أن الأديان جميعها تعرضت لمحاولات تشويه وتلاعب لخدمة السلطة، لا سيما "الذكورية" منها.
إذاً، هل العلويون أصولهم يهودية؟ نعم أصولهم يهودية ومسيحية ووثنية كما كان الجميع قبل الإسلام.. وماذا بعد؟ ما الذي أراد الكاتب قوله من نبشه التاريخ بطريقة منقوصة؟ الإجابة تتجلى عندما يختم مقاله بتأكيد أوجه الشبه بين فوقية وعنصرية دموية ووحشية "العلويين" واليهود، حسب قوله، وكأنه يشرعن الحقد عليهم عبر طرح موغل في الإثم في وقت وصلت فيه الدماء إلى الرُكب بين الإخوة في الوطن.
في جميع الأحوال "العلويون"، حسب المصادر التاريخية، يعودون في أنسابهم إلى قبائل عربية شامية وعراقية لم تعتنق اليهودية غسّان وبهرا وتنوخ وطيء. وإن كان، فهو ليس تهمة أو عارا، ألم يفتقد الرسول جاره اليهودي عندما تأخر عن وضع القمامة على باب منزله كما يفعل كل يوم فزاره ليسأله إن كان بخير؟
عزيزي كاتب المقال: أولا العرب "العلويون" لا يُختزلون بآل الأسد، وثانيا عبدالله بن سبأ سواء كان حقيقة أو خيالا قد نجح في إشعال نار الفتنة بين المسلمين، ومن الواضح جدا أن روحه ما زالت حاضرة بيننا.. أستحلفك بالله ألم تستحضرها أنت لحظة كتابتك لمقالك؟