سأبدأ برواية هذه القصة: أثناء رحلتي العلمية في الولايات المتحدة صادف أن لدى أستاذي كتاب يرغب في نشره وطال الوقت دون أن ينشر، وكنت أحد الذين دفع الكتاب إليهم لإبداء الرأي فيه ضمن زملاء له وطلابه، إذ كان الكتاب ضمن تخصصنا، وكنت أسأله بين الفينة والأخرى عن عدم ظهور الكتاب ولماذا تأخر نشره.
في النهاية، قال لي والسعادة تملأ محياه: إن الكتاب قد قبل للنشر بعد رفض سبع دور نشر له وبعد مراجعات مكثفة لمحتواه.
هكذا مستوى النشر في العالم المتقدم، لا بد أن يخرج الكتاب بجديد ولا بد أن تحترم دور النشر اسمها وختمها الذي تعتمد به الكتب التي تنشرها.
قد يشدك عنوان مطبوعات أو مقالات ثم إذا ما فرغت من قراءتها وجدتها لا تضيف لك شيئا، أنا من أؤلئك الذين يغضبون على المؤلف والناشر اللذين يتسببان في ضياع مالي ووقتي فيما اشتريه ثم قرأته ولم يضف لي أي جديد، وأنا متأكد أن هناك غيري الكثيرين الذين تعرضوا للموقف ذاته، ولا أعرف لماذا لا يوجد هذا الموقف عند دور النشر التي تملأ مكتباتنا بالغث الذي لا يساوي الحبر والورق الذي كتب به وكتب عليه؟ ولا أعرف لماذا السكوت على هذا من قبل الجهات التي ترخص لمثل ذلك الغث؟ أعرف أن هناك إجراءات وخطوات للنشر لكن معاييرها لا تتضمن أن يحمل الكتاب أي جديد، هي تنظر إلى جوانب سياسية ودينية بالتحديد وما عدا ذلك لا يهم، هذا خطأ كبير ترتكبه الجهات التي ترخص للمطبوعات التي لا تضيف لميدان العلم والمعرفة أي جديد.
لا شك أنه يفترض أن يكون المؤلف حريصا على ما يدفعه للنشر وحريصا على اسمه وسمعته، وحريصا على مال ووقت المتلقي، لكن إذا انعدم الحرص من مثل هؤلاء فلماذا نسمح لهم بالعبث في مالنا ووقتنا.
هذه المشكلة الكبيرة هي ما يتعلق بخيارنا نحن الجمهور الذين نشتري الكتب والمطبوعات بخيارنا، لكن هناك مشكلة أكبر وهي تتعلق بمن لا خيار لهم حينما تفرض تلك الكتب على طلاب الجامعات من قبل المؤلف نفسه أو من قبل زملائه مجاملة، يشترونها ويقرؤونها ويحفظونها ثم يستفرغونها في أوراق الإجابات، لكنها لا تضيف لهم شيئا، وليس لها علاقة بمشكلاتنا الحياتية ولا بالتفكير والإبداع، ولا تقدم الجديد في المجال الذي تدّرس فيه، وحتى مراجعها تمضي عليها سنوات عدة والدراسات والأبحاث تقول لنا إن المتخرج في الجامعة قبل أربع إلى ست سنوات تكون معلوماته قديمة.
خذوا هذه القصة أيضا: استضافت إدارة التعليم في تبوك -عندما كنت مديرا للتعليم هناك- إحدى اللقاءات التي تعقدها الوزارة على مستوى المملكة، ووجهوا الدعوة إلى أحد الأساتذة ليحاضر في المجتمعين الذين حضروا من جميع المناطق، ويا للعجب ويا للفضيحة من المحاضرة، فالموضوع كان عن "النظرية السلوكية" وقد ختم المحاضر الكريم محاضرته بالقول، "إنها أقرب نظرية للإسلام"!
لم يتحدث عن النظرية السلوكية كأساس لنظريات بنيت عليها ثم يتحدث عن تلك النظريات التي بنيت عليها ولو فعل لقلنا إن محاضرته رائعة، لكنه كان يتحدث عن النظرية السلوكية وجدواها وأهميتها، تلك النظرية التي نسخها تشومسكي في عام 1959، وأبطلها كنظرية قائمة وليس كنظرية أساس لنظريات قامت بعدها.
أخذت الكلمة بعد المحاضر ولم أتردد في القول إن كل ما قاله المحاضر الكريم قديم ولا يصلح للتطبيق الآن، ثم تابعت بأن النظرية السلوكية مهمة كأساس قامت عليه نظريات عدة في علم النفس وعلم النفس اللغوي كنظرية الـsycholinguistics ونظرية Schemata وغيرها من النظريات الحديثة، لم يكن ذلك الوقت وقت مجاملة لأنه يخص التربية والتعليم والحضور قياديون في التعليم من أنحاء المملكة والمعلومات المغلوطة التي تلقوها ستضر لا محالة بتعليمنا.
الشاهد في هذه القصة أن هناك من يهمه ملء الصفحات واسمه يظهر على العنوان وسيرته الذاتية تحمل كثيرا من المؤلفات بصرف النظر عن مستوى تلك المؤلفات. هذه كارثة في التأليف لدينا، وهنا أناشد وزارة الإعلام بعمل ضوابط تؤدي إلى تحكيم أي كتاب علميا تماما مثل تحكيم الأبحاث المعدة للنشر، ومن أي مؤلف سواء أكان أكاديميا أو لم يكن، وأناشد وزارة التعليم أن تضع قيودا على الكتب التي يتم إقرارها كمقررات على الطلاب، بأن تكون تلك الكتب محكّمة علميا أيضا، ولا يتم إقرار أي مؤلف ما لم يتم تحكيمه، هنا نستطيع أن نضع في مكتباتنا من المؤلفات ما نعتد به وما يعتد به المؤلفون، وما يساوي المال والوقت الذي نبذله فيه نحن معشر الجمهور.
إن معايير نشر الكتب لدينا لا ترتقي إلى مستوى النشر العلمي الذي يقدم الجديد، وهنا يجب أن تكون هناك وقفه حازمة من المرخصين لهذه المطبوعات الذين يفرضونها كمقررات في أقسام الجامعات.