للأمهات هنا في فرنسا رائحة مختلفة، لا تشبه تلك التي تفوح من أجساد أمهاتنا البعيدات. لا قمح فيها، ولا صنوبر، ولا زبدة.

مساماتهن لا تنضح بالبخور والجوز والقرفة وعَرَق الأمنيات، لها طعم "شانيل" و"اف سان لوران" و"كريستيان ديور" فقط.

هن لا يبكين كثيرا مثل أمهاتنا، لا يعطرن حبل الغسيل بالدمع، ولا أرض الدار بالصلاة، ولا الخبز بتراتيل "آية الكرسي".

لا يستيقظن فجرا لفتح باب المجرات على الحبق ولا يحملن مفاتيح البيوت القديمة في صدورهن المعتقة بحليب الحنين.

أسماؤهن باردة، لا يُكنين بـ"أم فلان"، ولا يحملن أسماءنا قبل قَطع حبل المشيمة، ثم يرددنها حتى الموت.

الأمهات هنا يضحكن بصوت عال. يبتسمن كثيرا. لا يسكن القلق عيونهن المعلقة على شرفات الانتظار، ولا الغصة في عبراتهن الممزوجة بالدعاء.

لهن أرجل جميلة لم تُلونها دوالي الوقوف لساعات طويلة في المطبخ، ظهور مشدودة لم يَحنِها الجلوس على عتبات العودة، وأظافر أنيقة لم يطلها تراب الحدائق المعلقة في ريح الابتهال.

لا تطبخ الأمهات الحياةَ هنا. لا يخبزن حلوى الأبدية المُبهَرة بالقرنفل، ولا يغسلن وجه الأفق بالندى. أرحامهن جديدة، لا ترهقها الولادات المتكررة، ولا الأعمال المنزلية الكثيرة.

حساباتهن البنكية مليئة لا تُفرغها طلباتنا المستمرة، وفيزهن جاهزة لقضاء العطلة في الخارج، لا تُعيقها إصابتنا المباغتة بالأنفلونزا ولا خوفنا من الامتحان.

يقرأن الكتب في المترو والبيت، يدخلن شبكات التواصل الحديثة، يستخدمن الإنترنت والأجهزة الذكية، ولا يُخيفهن صوتنا المباغت: "ماذا تفعلين؟ ولماذا تقرئين؟"

يذهبن إلى السينما. يحضرن المسرح والأوبرا والحفلات الموسيقية. يصففن شعرهن عند مزين الشعر. يلتقين بصديقاتهن. لا يشعرن بالذنب لأنهن سرقن بعض المتعة.

الأمهات هنا لا يبقين دون زواج بعد موت الأب أو رحيله، ولا يُفنين أعمارهن في حياكة الأثواب لأبطال اللعنة عن "الإخوة" التائهين.

يتلقين القبلات والورود حتى لو لم يحضّرن طعام الغداء، يُعامَلن باحترام حتى لو لم يَكوين قطع الغسيل النظيفة، ويُوصفن بالحبيبات حتى لو لم ينظفن المنزل.

يُعطين ويَأخذن، ولا يَمنحن حد الانمحاء، يَخدمن ويُخدمن، ولا يَعملن حد العياء، يُسعِدن ويُسعَدن ولا يحكين الحكايات حتى انبلاج الفجر خوفا من سيف شهريار.

الأمهات هنا يتلقين الهدايا في عيد الأم حتى لو لم يكنّ "مثاليات"، كتبا وبطاقات سفر واشتراك دخول إلى متحف اللوفر ونظارات قراءة، ولا يُهدين فقط، مكانس كهربائية لشفط الغبار، وفرامات لحمة لإعداد الكفتة، وخلاطات لصنع الكوكتيل، وماكينات خياطة لملأ أوقات الفراغ، وأجهزة مساج منزلية لتخفيف آلام المفاصل المزمنة.

الأمهات هنا. لا يشبهن أمهاتنا في كتب القراءة المدرسية والدراما والأعمال السينمائية والأدب.

يقرأن، يفكرن، يعملن، يخترعن، يبدعن، يرسمن، يعزفن الموسيقى، يكتبن الشعر، يتحدثن في السياسة، يصنعن التاريخ. لا يطبخن ويجلين ويكنسن ويطعمن الدجاجات والديك حسن الصوت مع رباب "ربة البيت تصب الخل في الزيت"، ويربين الأطفال ويبكين أزواجهن الراحلين فقط. الأمهات هنا لا يشبهن أمهاتنا المسروقات الأعمار.

أمهاتهم "شريرات". لا يَطحن َملح الحياة لنحيا.. كما تفعل أمهاتنا الطيبات "كثيرا جدا".