بدأت الصداقة المعلنة بين إيران وأميركا مع احتلال العراق عام 2003، إذ احتلت أميركا العراق خلافا لرأي مجلس الأمن الذي رفض اقتراح أميركا بضرب العراق. وسقط الاقتراح بالتصويت وليس بالفيتو. ورغم ذلك أصرّت أميركا وحليفتها بريطانيا على احتلال العراق، ودخل معهما من إيران ما يعرف بـ"فيلق بدر". وانطلقت الشراكة المعلنة بين أميركا وإيران وغايتها الفوضى الخلاقة وتفكيك المجتمعات العربية ودولها على مدى 12 عاما. والمشاهد المتتالية تؤكد المضي في هذا التحالف وهذه الشراكة.

المشهد الأول كان صورة الحاكم الأميركي للعراق "بول بريمر" ومن خلفه خريطة العراق مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، شمال ووسط وجنوب. وكان القرار الأول يقضي بحل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية، أي تفكيك الدولة العراقية ومعها كان نهب الوثائق والقيود والمتاحف والأعمال العدوانية، وعودة أحزاب سياسية من لون معيّن، واجتثاث المكونات السياسية الأخرى في العراق. ونستطيع القول إن ما رأيناه في العراق يشبه إلى حد بعيد ما كنا قد قرأناه عن سقوط بغداد على أيدي المغول، وكيف أن الأنهر صبغت بحبر مكتباتها وتاريخها العريق.

المشهد الثاني هو تغيير القيادة في إيران بعد احتلال العراق، إذ أُقصي التيار الإصلاحي المتمثل بالرئيس خاتمي، وسيطر الحرس الإيراني والمتشددون على السلطة بإيران، وبدأت بلورة الطموحات الإمبراطورية، لأن العراق كان على الدوام هو العازل أو "البافارزون"، بين العرب والفرس، كما كان يحلو للعرب الذين ناصروا صدام تسمية العراق بالبوابة الشرقية للوطن العربي الكبير. وهذا صحيح، فالمشرق العربي كان دائما ممر كل الغزاة على مر التاريخ. والجدير بالذكر أنه عندما تعرض المصريون الشهر الماضي لاعتداء إرهابي مصدره ليبيا صرح القادة آنذاك بما مفاده أن مصر لأول مرة في تاريخها تتعرض لاعتداء من غربها، أي الحدود الليبية، وأن كل الاحتلالات التي تعرضت لها مصر كانت من الشرق.

المشهد الثالث كان في عام 2004 وإصرار إيران علنا على تحديد مصير الرئاسة في لبنان، خلافا لرأي اللبنانيين العرب والدوليين. وإلى حد بعيد، ظهرت سورية على أنها فقدت السيطرة على لبنان. وكانت عملية التمديد للرئيس أميل لحدود، وصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الذي يطالب فيه بخروج السوريين من لبنان وحل جميع الميليشيات. رفضت إيران ذلك القرار، ثم كانت محاولة اغتيال مروان حمادة، ومن ثم اغتيال الرئيس الحريري، وما جاء بعده من اغتيالات أخرجت لبنان من سياقه الطبيعي. ولا يزال لبنان بين الموت والحياة، وهو في حال من الفوضى المنظمة حتى الآن.

المشهد الرابع بدأ مع رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وانتخاب محمود عباس رئيسا للسلطة الفلسطينية وظهور حركة حماس، ومدى الاستثمار الإيراني في الانقسام الفلسطيني والشروع في حرائق غزة، واحد واثنين وثلاثة، وإلى ما هنالك من موجات عنف واضطراب شلت القضية الفلسطينية، وساعدت إسرائيل على الاستمرار في الاستيطان وضرب ما سمي بعملية السلام كليا. وخير دليل هو ما جاء في حملة نتنياهو الانتخابية أنه إذا أعيد انتخابه فلن يسمح بقيام الدولة الفلسطينية وسيكثف عملية الاستيطان في القدس الشريف.

المشهد الخامس هو توريط سورية في الاستثمار بالفوضى العراقية لإخراج الشريك الأميركي من العراق، وذلك بالإفراج عن الجماعات الإرهابية وإرسالها إلى العراق. والحقيقة هي أن الأميركيين كانوا قد اطمأنوا لإيران وقدرتها على تنفيذ استراتيجيتهم في الفوضى الخلاقة. وبدا ذلك واضحا فيما عُرف "بتقرير بيكر-هاملتون" عام 2007، المشكّل من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، الذي أوصى بالخروج من العراق. وكانت انتخابات 2009 التي فاز فيها إياد علاوي ومعه المكوّن العربي السني. فكانت النتيجة إبرام اتفاق مع إيران عُرف "باتفاق أربيل" مع الأميركيين، فتولى المالكي الحكم في العراق.

المشهد الأخير الذي بدأ بعد الخروج الأميركي من العراق مع ما سُمّي بالربيع العربي أظهر بشكل واضح ما أُعد من تشكيلات تخدم تلك الفوضى الخلاقة في مصر. كان حضور إيران واضحا في اليمن والبحرين وتونس وليبيا، والتدخل الأخطر كان في سورية والعراق إذ عمّمت لغة العنف الطائفي، واتخذت أشكالا مدمّرة في سورية يعرفها الصغار والكبار. وكان المقصود منها تحضير الأجواء للعناصر الإرهابية الأكثر خبرة في الميدان، وسمح لها بالسيطرة على منابع النفط. وكانت إيران والنظام السوري يشتريان البترول من داعش، وكان المالكي في العراق يحقن الأجواء ويضرب بالطيران والمدافع وجهاء الأنبار الذين حاربوا الإرهاب من خلال ما عُرف بالصحوات، مما أنتج ما نراه الآن في سورية والعراق مع الصور التذكارية بصيغة الاحتفال بالانتصار والتصريحات عن الإمبراطورية الساسانية، أي قبل الإسلام بألف عام تقريبا، ثم ما نراه كل يوم في اليمن التي كانت أيامها الأخيرة مفزعة بعد ضرب المقر الرئاسي في عدن بالطيران ومحاولة الانقلاب، ثم التفجيرين الداميين في صنعاء.

كل هذه الأمور كانت تحدث وكيري وظريف يتنقلان بين منتجعات أوروبا في غاية الهدوء والسعادة والمودة، ما يجعلنا نعتقد أن العقوبات على إيران لم تكن إلا من أجل إفقار الناس ومن أجل زيادة تحكم المحافظين في عموم الناس الفقراء. وهذا ما كان عندما عوقبت ليبيا إذ اشتد حكم القذافي أكثر من أي وقت مضى. وهذا تماما ما حدث في إيران وجعلها تتصرف بأموال العراق، حيث صرفت كل الثروة العراقية في صناعة الفوضى في سورية وغزة واليمن والسودان ولبنان.

كانت شراكة ناجحة بين أميركا وإيران في صناعة الفوضى الخلاقة وتفكيك المجتمعات العربية ودولها مع الادعاء بمحاربة الإرهاب، وأعتقد أن أميركا وإيران تعرفان أكثر من غيرهما أن طابخ السم آكله.