لقد تناولت في مقالات ثلاث سابقة، حالة تشكيل وإعادة تشكيل العالم العربي، إثر مشروعي سايكس بيكو الأوروبي، بداية القرن العشرين، والشرق الأوسط الجديد، الأميركي، بداية القرن الحادي والعشرين.
وفي إحدى مقالاتي استعرضت في عجالة الدور الذي لعبته تركيا، في مشروع سايكس بيكو الذي أتى على حسابها، كما يبدو.
وفي الحقيقة هو لم يأت على حساب الجمهورية التركية الأتاتوركية الوليدة حينها، وإنما أتى على حساب تركيا، الخلافة الإسلامية التي أصبحت جزءا من الماضي.
فعندما هجمت جيوش القوى الأوروبية الناشئة حينها في البلقان واليونان، على ما بقي من جسد دولة الخلافة العثمانية لتقطيعه والتهام ما بقي منه، بعد هزيمتها مع دول المحور في الحرب العالمية الأولى، تصدى لها الجيش التركي وبكل حزم وشجاعة، بقيادة قائده الفذ حينها، كمال مصطفى أتاتورك، الذي أعاد للجيش التركي تماسكه، بعد محاولة تفكيكه والقضاء عليه، وطردها من حدود تركيا المتعارف عليه اليوم.
وقبل ذلك، كان قد تصدى الجيش التركي، وبشجاعة مبهرة، لمحاولة غزو الجيش البريطاني لمضيق الدردنيل والسيطرة عليه، إذ تم دحره في معركة قاليبولي عام 1915 التي بسببها فقد السير ونستون تشرشل، قائد البحرية البريطانية حينها منصبه، وكادت أن تفقده مستقبله السياسي في بريطانيا.
وفي نفس الوقت، رفعت معركة قاليبولي من شأن قائد الجيش التركي مصطفى كمال أتاتورك، وحولته من أحد قيادات الجيش التركي، إلى بطل قومي ومنقذ لتركيا من التفكك، ومؤسس لجمهوريتها الحديثة.
إذًا فالجمهورية التركية الوليدة فرضت نفسها كقوة أمر واقع في المنطقة، وكي لا تنهك أكثر وتصبح مجال تمدد للثورة البلشفية الشيوعية، المشتعلة حينها في روسيا، ويسيطر السوفيت فيه على مضيق الدردنيل، ويمكّن أسطوله من التسلل من البحر الأسود إلى البحر الأبيض، ويهدد شرق وجنوب أوروبا، سمحت الدول الأوروبية حينها، بريطانيا وفرنسا، بدعم الجيش التركي ليقف على رجليه حتى يتصدى لأي غزو سوفيتي على بحر مرمرة.
وفي نفس الوقت، فرضت على الجمهورية التركية التنازل عن بعض حدودها الغربية التي سيطر عليها الجيش اليوناني وبعض جيوش دول البلقان.
وفي المقابل، تم منح الجمهورية التركية أجزاء من حدود المشرق العربي الشمالية الذي تم تقسيمه بين بريطانيا العظمى وفرنسا، حسب اتفاقية سايكس بيكو.
لقد تم إعلان قيام الجمهورية التركية عام 1921، كدولة وطنية بحدودها التركية القومية الطورانية وعلى أسس علمانية، لتأكيد الفصل بينها وبين تاريخها العثماني الإسلامي، وعليه التنازل عن أحقيتها في المطالبة بالحدود العثمانية التي فقدتها، مع انهيار دولة الخلاقة الإسلامية العثمانية.
ولكن هذا لا يعني أن تتخلى الجمهورية التركية الوليدة عن بعض المناطق الاستراتيجية الحيوية المحاذية لها التي تعدها جزءا من أمنها القومي الذي لا يمكن أن تتخلي عنه بيسر وسهولة.
فعندما بدأت إرهاصات الثورة العربية ضد بريطانيا وفرنسا تندلع على إثر تقسيم المشرق العربي حسب اتفاقية سايكس بيكو، أخذت الدولة التركية الوليدة في دعم قيادات الثورة العربية الناشئة بالسلاح والمال عبر حدودها الطويلة مع العراق وسورية وإيوائهم، من أجل إفشال مشروع تقسيم المشرق العربي أو على الأقل عدم سيطرة فرنسا وبريطانيا عليه بسهولة أو على الأقل لإرباك وجودهما في المنطقة، من أجل أن تصبح مساعداتها أو غضها الطرف عن حركة القيادات الثورية العربية ورقة ضغط تتفاوض بها مع فرنسا وبريطانيا، من أجل الحصول على المزيد من المناطق العربية المحاذية لها التي تعدها الدولة التركية الوليدة حيوية لأمنها الوطني.
بريطانيا وفرنسا قررتا منح ما يمكن منحه من الحدود العربية الشمالية المحاذية والحيوية لتركيا، من أجل إيقاف دعمها للثوار العرب وكسبها إلى صفهما من ناحية، ومن ناحية أخرى الضغط عليها بعدم المطالبة ببعض حدودها الغربية التي فقدتها لحساب اليونان وبعض دول البلقان.
هذا مع إمكانية دعم الدولة التركية ببعض المال والسلاح من أجل أن تصمد في وجه أي تدخل شيوعي يمكن أن يأتيها من روسيا الشيوعية التي تهدد شرق أوروبا.
وكان هذا من الناحية الاستراتيجية والنفسية يلقى قبولا لدى القيادة التركية الجديدة، إذ بدأت تركيا الحديثة تؤسس نفسها على أسس علمانية حداثية أسوة بالدول الأوروبية، وتخليها عن تراثها الشرقي الذي تعتقد أنه هو من أنهكها وجعلها متخلفة عن الدول الغربية.
وعلى هذا الأساس قررت بريطانيا وفرنسا منح جزء من شمال سورية إلى تركيا حسب معاهدات سيفر عام 1920، وأنقرة عام 1921، ولوزان عام 1923 التي اقتطع بموجبها مناطق من شمال سورية وهي: مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة ومرعش وعنتاب وكلس والبيرة وأورفة وحران وديا بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر، وتم ضمها إلى الحدود التركية، وهي مساحة تقدر بما يزيد على 18 ألف كيلومتر مربع. مع أن تركيا كانت تطالب بأكثر من ذلك، مثل لواء الإسكندرونة ومدينة حلب وريفها، كما طالبت تركيا بشريط حدودي يقتطع من شمال غرب، حتى شمال شرق سورية، بطول 30 كيلومترا مربعا ويضم إلى حدودها، بحجة وجود ضريح قبر جد الأتراك سليمان باشا، على بعد 30 كيلومترا من حدود تركيا داخل الحدود السورية، والواقع عند قلعة جعبر والمسمى بالمزار التركي. ورفضت فرنسا ذلك وجعلت مساحة ضريح القبر ومحيطه فقط تكون تابعة للأراضي التركية، ويرفع عليه العلم التركي ويتم حراسته بجنود أتراك، وهو داخل الحدود السورية.
وهكذا أصبح داخل الحدود السورية مسمار لجحا الأتراك، وعليه أصبحت تركيا تنتظر الفرصة السانحة لتضم شمال سورية بحلب وريفها وحتى شمال العراق المتمثل في الموصل ومحيطها التركماني لحدودها.
وفي عام 1937، قررت فرنسا فصل لواء الإسكندرونة عن سورية وعينت حاكما فرنسيا له. وفي عام 1938 دخل الجيش التركي إلى اللواء بشكل مفاجئ للرأي العام السوري، وتراجع الجيش الفرنسي منه إلى أنطاكية. وقامت تركيا بالاستيلاء على اللواء وضمه بالقوة إلى حدودها، وكان ذلك نتيجة اتفاق تم إبرامه بين فرنسا وتركيا بأن تسلم فرنسا لواء الإسكندرونة لتركيا مقابل أن تصطف تركيا إلى جانب الحلفاء: بريطانيا وفرنسا عند نشوب حرب بينهما وبين ألمانيا، إذ كانت بوادر الحرب العالمية الثانية تلوح بالانفجار.
وهكذا استطاعت تركيا الاستفادة من أي تآمر غربي على المشرق العربي وأخذ نصيبها، كونها أصبحت قوة عسكرية غربية تسهم في الدفاع عن الغرب، بجيشها صاحب أعظم خبرة وأقدم تاريخ عسكري في المنطقة.
وفي بداية الخمسينات أصبحت تركيا جزءا لا يستغنى عنه ضمن حلف الناتو، وشارك جيشها في الحرب الكورية عام 1950- 1953، إلى جانب الجيش الأميركي والجيوش الغربية. وكان قبلها بسنتين عام 1948، تم إعلان مبدأ الرئيس الأميركي هاري ترومان، والقاضي بأن الدفاع عن تركيا واليونان هو جزء لا يتجزأ من الدفاع عن الحدود الأميركية.
وعليه قامت تركيا بالاعتراف بالكيان الصهيوني في فلسطين والتعاون العسكري معه.
وفي عام 1958 وأثناء سيطرة القوميين العرب على البرلمان السوري وهزيمة الإخوان المسلمين، وثورة 14 يوليو في العراق حشدت القوات التركية في عهد رئيس الوزراء الإسلامي عدنان مندريس جيشها على الحدود السورية، والتي بدورها اتحدت مع مصر، والتكملة تأتي.