ليست وحدها خرائط المنطقة التي تتغير حاليا، ومعها منظومة التحالفات الإقليمية والدولية، لكن الأخطر هو تشكيل وجدان جيل جديد يبدو لغزا ينسف التحليلات السابقة التي ربطت التطرف والإرهاب بالفقر والاستبداد، فهناك عناصر وقيادات بتنظيم "داعش" تركوا بلادهم في الشرق والغرب التي تمنحهم الفرص كافة التي يتمناها الشباب، ليلتحقوا بتنظيم يعلن الحرب على العالم بوحشية، تشكل "موقفا انتحاريا" يتبناه الذين يرون نفاق السياسات الدولية وازدواجية المعايير بفجاجة مبررا لممارساتهم.
هذه الأسباب ليست وحدها التي بلورت "الدعشنة"، فقد مهدت الأرض أمامهم عقودا بتبني بعض الفقهاء والدعاة لمفاهيم تتسم بالتشدد، ووصم العقلانية والتسامح والعيش المشترك بتمييع ما يرونه "صحيح الدين"، فاكتمل مشهد "الدعشنة الناعمة" التي أفضت إلى حروب طائفية تارة وإرهابية تارات، واشتعلت حرائق "الربيع العربي" 2011 لتنشر نيرانها حقول الدم والعنف، وتقفز "الدعشنة" لتتصدر المشهد، مستغلة الفوضى العارمة وتفكك بنية الدولة الوطنية.
لعبت الكتيبات الصفراء وأشرطة التسجيل وأسطوانات الدعاة المتشددين دورا محوريا لتهيئة الأجواء وترجمتها إلى واقع لم تكن أجهزة الاستخبارات الدولية بعيدة عنه بالطبع، لكن "المجتمعات المُحصّنة" فكريا كانت ستصبح عصية على الانزلاق لظاهرة "الدعشنة" التي لم يزل يكتنف ظهورها وتمددها الغموض وحلقات مفقودة أراها "الظهير الفكري" الذي تسلل إلى وجدان جيل ربما لا أبالغ حين أصفه بتعبير "الدعشنة الرومانسية" التي وفرها التنظيم بوعود الجنة، فقد ناقشت بعض العائدين من سورية والعراق وكانوا يصفون المعارك الوحشية بأنها السبيل الوحيد للجّنة ويدعون رفاقهم إلى الالتحاق لنصرة الإسلام، وإحياء دولته ورفعة شأنها.
الخبيرة الألمانية سوزان شروتر تؤكد في دراسة أن نحو 10% من الغربيات المنتميات إلى داعش قاصرات، موضحة أن دوافعهن البحث عن الحب والرومانسية، وتسوق أمثلة تعرض بمواقع التواصل لأعضاء التنظيم وغربيات، أعربت إحداهن عن سعادتها بتجربة الحب في ساحات الجهاد، وأخرى ظهرت كممرضة وبيدها اليسرى رأس شخص مقطوع، وترى الباحثة استقطاب "داعش" للغربيات يرتبط بسعيهن إلى تصورات رومانسية وتجارب فريدة.
أما دور الدعاة المشهورين لا سيما من ذوي "المواقف المتأرجحة" فعند مراقبة المسافة بين كتاباتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومقالاتهم الصحفية ومقابلاتهم التلفزيونية، تكتشف مساحة واضحة بين الحالتين، فهم يتملقون المتعصبين صراحة في شبكات التواصل، بينما هم يحافظون على "شعرة معاوية" في مقالاتهم ومقابلاتهم، ليؤسسوا لما يمكن تسميته "الدعشنة الناعمة" وتأصيل رومانسية خطابها العدواني.
ثمة خطيئة مارستها أجهزة الأمن المصرية - عن غير قصد - حينما زايدت على الغُلاة بمتعصبين آخرين شكلتهم بالكواليس ومنحتهم المنابر ليندلع سباق المزايدات حول الأكثر تشددا، وكانت أبرز نتائج هذه اللعبة الخطرة تهيئة مناخ "الدعشنة الفكرية"، وكالعادة فشلت بصرف "الجنّي" الذي استحضرته الأجهزة، فانقلب السحر على الساحر، وخرجت "الذئاب المنفردة" عن السيطرة لتصبح أزمة تمددت داخليا وخارجيا، وما زالت آثارها قائمة، فلم تجفف منابعها الفكرية، رغم أنها المصدر الأساسي لإفراز جماعات وحشية.
تبقى الإشارة إلى كتاب نشر حديثا يوثق شهادة أحمد الرّجال، الطبيب المصري والقيادي بتنظيم "الفنية العسكرية" الذي شارك في محاولة الانقلاب الفاشلة على حكم الرئيس الراحل السادات عام 1974 سعيا إلى إقامة "دولة الخلافة" وحمل عنوان "هاتف الخلافة" وتضمن معلومات وملابسات جديدة بشأن آليات توريط شباب غضّ بمخاطبة عواطفهم الجياشة، ومداعبة أفكارهم الموغلة في التعصب، ودعوتهم إلى استعادة الخلافة بالتجربة الأفغانية.
وأثار الكتاب الذي حرره كمال حبيب مؤسس تنظيم "الجهاد" إشكالات بشأن الخلافة، وما إذا كانت من أصول الدين أو السياسة؟ واشتعلت المناقشات التي اتخذ بعضها سجالات فكرية، منذ صدور كتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم"، بينما تحول بعضها إلى صراعات مسلحة أُريقت خلالها أنهار الدم.
ولعل الأخطر في "الكتاب ـ الشهادة" هواجس الضباط الذين حققوا القضية حول صلتها بحسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية "الإخواني" وأيضا علاقة التنظيم بالقذافي الذي كان يناصب السادات العداء حينذاك، بالإضافة إلى الخلفية الشيوعية للفلسطيني الغامض صالح سرية "مؤسس التنظيم"، فهذه الإرهاصات الأولى فكريا وتنظيميا لكيانات "القاعدة" و"داعش" وغيرهما من تجليات "الأممية الأصولية" التي أثق أنها ستستمر لأجل يعلمه الله وحده.