لو بحثنا في رحاب أي مدرسة عصرية عن مكان يشعر فيه جميع الطلبة والتلاميذ أنهم موضع ترحيب ودعم، حيث يلاقون كل ما يحتاجونه من التشجيع والخدمات المساندة من أجل النمو والتعلم، فأي مكان يمكن أن يكون؟ بالتأكيد المكتبة!

اليوم لم تعد المكتبة مكانا لتوفير الكتب فقط، بل تعدت ذلك وأصبحت مكانا يتم فيه -إلى جانب توفير الكتب والدوريات والصحف والمجلات- أجهزة الحاسوب وكل ما تقدمه التكنولوجيا من معدات وبرامج مساعدة، إلى قواعد البيانات للمعلومات التخصصية والكتب الإلكترونية، هذا إضافة إلى توفير المتعة والأنشطة التعليمية من ورش عمل ودورات تدريبية. فقد أضحت المكتبة بيئة تشبه خلية نحل تسهم في بناء مهارات التفكير والبحث وتعزيز مهارات التعلم الذاتي والتعلم المستمر، فمن برأيكم الشخص الأفضل لإدارة كل هذه الأنشطة والخدمات التعليمية؟ بالطبع أمناء المكتبات المتخصصين في علوم المكتبات، لا الإداري ولا المعلم، ولكن للأسف الشديد ما نجده في الكثير من مدارسنا أن هذه المراكز المهمة التي تعتبر قلب المدرسة تدار من قبل غير المختصين! هذا إذا اعتبرنا أن ما يوجد اليوم يصلح أن يسمى مكتبة!

إن كانت القراءة هي النافذة التي يطل من خلالها الطالب على العالم، فكيف يستطيع الطالب أن يصل من غير هذه النافذة ومن غير المختص الذي سيرشده على كيفية الدخول منها ومن ثم الانطلاق بنفسه؟! نعم يجب أن تكون هناك مناهج قوية تسهم في بناء المخزون المعرفي لدى الطالب، ولكن يجب أن يتدرب أيضا على كيفية الحفاظ على ما تعلمه والاستفادة الفاعلة والمبتكرة في مسيرة حياته العلمية والعملية، فهو بحاجة إلى التمكن من مهارات التفكير الناقد ومهارات حل المشكلات، ومهارات الاتصال، ومهارات الإبداع والابتكار، ومهارات التعاون والعمل في مجموعات، ومهارات الإبحار في الشبكة العنكبوتية.. ولن يتمكن من كل ذلك عن طريق معلمي ومعلمات المواد فقط، بل يجب وجود خدمات أمناء المكتبات أيضا للمساعدة على بناء وتطوير كل هذه المهارات. مثلا عن طريق توفير مواد مساعدة ترشدهم إلى كيفية صياغة الأسئلة البحثية المناسبة، وتنظيم عمليات البحث عن البيانات ومن ثم تحليل وتقييم هذه البيانات للتوصل إلى النتائج المستهدفة، إنهم يوفرون أيضا البيئة التي تسهم في بناء المسؤولية في التعلم والتقييم الذاتي، وهي مهارتان يحتاجهما الطالب فيما بعد في مسيرة التطوير والتعلم مدى الحياة.

هناك دراسات عديدة قام بها الكثير من المختصين في مجال التربية والتعليم وعلى رأسهم ستيفن كراشن، وجدت أن البرامج والأنشطة المكتبية التي تدار من قبل المختصين من أمناء المكتبات، لها تأثير إيجابي على التحصيل الدراسي للطلاب. لكننا نجد أن خريجي هذا التخصص عندنا يشتكون من التهميش إما بعدم التوظيف أو بتعديهم في إعطاء مواد خاصة مثل طرق البحث لمعلمي اللغة العربية! وهذا ليس بقرار جديد، بل صدر في 1412 حين كان عدد المختصين من أمناء المكتبات قليلا، ولم يتم تعديله فيما بعد، وأدى ذلك إلى أن العديد من مديري المدارس لا يقدمون احتياجا لأمناء مكتبات، نظرا لقيام معلمي اللغة العربية في تدريس المادة وتوظيف إداريين غير متخصصين في إدارة المكتبة! مرة أخرى إن صحت تسميتها بالمكتبة ولم تكن مجرد مخزن أو مكان مخصص للاجتماعات! ظلم كبير وقع ليس فقط على الخريجين في هذا المجال، بل أيضا على مستقبل الطلبة والطالبات ومعلمي ومعلمات المواد الذين هم اليوم أحوج ما يمكن إلى خدماتهم، فأمناء المكتبات المختصون يقومون بتقديم برامج وأنشطة تدعم المناهج، كما تساعد الهيئة التعليمية على التوصل إلى مصادر التعلم التي تمكنهم من التعرف إلى أحدث طرق التدريس والوسائل المساندة.

المكتبات المدرسية ليست ترفا، بل عامل مهم في العملية التعليمية، حيث توفر المناخ الآمن والرعاية خلال النهار، وأيضا قبل وبعد الدوام المدرسي، كما يعتبر أمناء المكتبات شركاء أساسيين لجميع معلمي المواد من أجل تعميق وترسيخ عمليات التعلم لدى الطلاب، بل يمكن أن نقول إن أمناء المكتبات هم قادة المدرسة، لأنهم يعملون في قلب المعرفة سواء كانت إلكترونية أو ورقية.. إنهم حيث تنمى القراءة الفاعلة ومهارات طرق البحث، فإن أهملنا ذلك نكون نحرم أبناءنا من فرص التأهل لوظائف لم تخترع بعد، وعليه فهم بحاجة إلى مهارات جمع وتقييم واستخدام المعلومات لخلق المعرفة الجديدة التي يحتاجونها من أجل الاستمرار في تطوير أنفسهم استعدادا لأسواق عمل متطورة تطغى عليها التكنولوجيا في بيئة تنافسية ليست محلية بل عالمية.

ما يواجه أمناء المكتبات لدينا هو حقا أزمة وجودية في الوقت الذي نجد فيه أن التعليم بحاجة إليهم وإلى ما يقدمونه له من مساعدات، فضمان التفوق لكل طالب لا يكون إلا من خلال توفير المكتبات الحديثة بأمناء متخصصين في كل مدرسة. يا معالي الوزير إن تحركك في هذا الاتجاه والتعرف إلى ما يعانونه من تهميش أو عدم توظيف سوف يحدث فرقا كبيرا في مستوى التعليم في مدارسنا، وأنا هنا لا أتحدث عن حقوقهم فقط، بل أيضا عن حق أبنائنا في التعليم الحديث والمميز الذي يتلقاه الطلاب في كثير من بلدان العالم حولنا، فالمكتبة هي دينمو المؤسسة التربوية، وأمناء المكتبات هم نبضها.