عزز معرض الرياض الدولي للكتاب في سنوات ليست قليلة من العقد الأخير فرضية تحولات السوق وإمكان تحويل المنتج الثقافي إلى سلعة تلعب دورا محوريا في البعد الاقتصادي للمجتمعات، متقاطعة مع أدوار وسائل الميديا في تطوراتها المتلاحقة، والعائدة أساسا إلى قفزات قطاع الاتصالات بشكل هائل.

الناشر المحلي كان جزءا حيويا شارك بفعالية في حدوث هذا التحول، وتأسست دور نشر لشبان هم أصلا أبناء شرعيون للمشهد الثقافي.

وما بين مثالية الكاتب وواقعية دور النشر ومتطلبات السوق التي يرتهن لها بعض الناشرين يتعاظم قلق بعض الكتاب والمثقفين الذين يتهمون بعض دور النشر بأنها "جشعة".


تسليع سلبي

الروائي والباحث في قضايا النشر والببيلوجرافيا الروائي خالد اليوسف يتوقف عند تشكل صناعة نشر ناهضة في المملكة خلال العقد الأخير، مختلفة في تعاطيها مع النشر وآلية تفكيرها، وإن تحفظ بعض الكتاب على بعض هذه الدور ينطلق من أن ملامح "التسليع السلبي" للمنتج الثقافي لديها يبدو الأكثر وضوحا، مبررين ذلك بأن الناشر بات خلف كلفة إنتاجية باهظة، تدفعه لرؤية ذات بعد استثماري ربحي.

يتزايد قلق واسع من تحديات وفرضيات نهاية العصر الورقي للكتاب، يشير اليوسف متابعا في حديثه إلى "الوطن" إلى ظاهرة تنامي تأسيس دور نشر سعودية تدخل السوق، وبشكل شراكات جماعية أحيانا بين مجموعة مثقفين معا، أو توافق يجمع بين مثقفين ورجال أعمال يملكون وعيا ورؤية ثقافية في الغالب.

ويحدد اليوسف ملامح هذه الدور في أن بعضها يتخذ من عواصم عربية ذات ثقل تاريخي في صناعة النشر مقرا لها مثل بيروت والقاهرة، وبالشراكة أيضا مع أفراد من هذين البلدين المتمتعين بتراكم خبرات واسعة، تحتاجها التجربة المحلية، بل وحتى الإبداع المحلي، ويستشهد اليوسف هنا بتجربتي داري الانتشار والعربية للعلوم، في شراكتهما مع عدد من الأندية الأدبية، ما أسهم - بحسب اليوسف - في ترويج منتج الأندية، ليس على مستوى محلي فحسب، بل على نطاق عربي واسع.


حد الندرة

مراقبون آخرون ينفون تفاؤل اليوسف على نحو ما يرى الدكتور نبيل رواس من جامعة الملك عبدالعزيز من واقع تجربة يراها في المعارض العربية التي تفتقد المنتج المحلي، أو يقل حضوره فيها حد الندرة، مرجعا ذلك إلى أن مزاجية الناشر العربي تدفعه لأن يكتفي ببضع نسخ من المنتج المحلي، يعرضها في معرض الرياض الدولي وعدد من دول الخليج، هاربا من تكلفة شحنها للمعارض الدولية العربية والعالمية.

وإذا كانت أزمة الكتاب السعودي سابقا تتجلى طبقا لعدد من الكتاب والمراقبين في تعامل دور النشر مع الكتاب من حيث توزيعه، لأجل ذلك لا يجد رواجا في العالم العربي، فإن اليوسف يؤكد أن هذه المشكلة لم تعد قائمة بشكل مؤثر الآن نتيجة المتغيرات في وسائط الميديا، وفي شراكات الأندية الأدبية مع دور نشر نشطة، وتعمل بعقلية احترافية يتطلبها إيقاع العصر، وتتطلبها حركة السوق الاقتصادية، وهذا ما تنبهت له مجتمعات كثيرة، ودول أخرى أطرت هذا المنتج فيما يمثل معادلة مهمة في التنمية البشرية، فالثقافة والكتاب جزء منها، تظل عنصرا أساسا لأيما مشروع نهضوي.

وقبل سنوات ومعرض الرياض في بدايات تأكيد جدارته كأحد أهم المعارض العربية الدولية، كان الكاتب السعودي يتجنب قدر الإمكان دور النشر المحلية ويعزو ذلك إلى أكثر من سبب، من أهمها انعدام وجود الناشر السعودي المحترف والرقابة، بيد أن مراقبين يشيرون إلى تقلص مساحة تأثير هذين العاملين مع كل دورة جديدة من معرض الرياض، ذاهبين إلى أن النشر بات صناعة، أخذت تتشكل إرهاصات ولادته محليا، حتى وإن كان الكاتب العربي في العموم لا يزال يبذل ويتحمل تكلفة منتجه الفني وربما المعنوي، ويمضي على النقيض من نظيره في مجتمعات أخرى ربما يعتاش فيها من نتاجه الإبداعي، ما يجعله متفرغا للكتابة، لأنها مهنة تدر عليه دخلا، ما خلق علاقة متوترة في الغالب بين الناشر والكاتب السعودي، على نحو ما نشرته "الوطن" في فبراير الماضي من شكوى الروائي عمرو العامري دار طوى التي كان مديرها الكاتب عادل الحوشان، وذكر أن العلاقة بين الناشر والكاتب هي أزمة أبدية، فكلاهما في عالم منعزل: مثالية الحضور للكاتب، وواقعية النشر والكتاب العربي وتجارة البيع والعرض والطلب للناشر.

ويرى الحوشان أن من حق المؤلف الاهتمام بمنجزه الإبداعي، لكن ذلك ليس معناه أن يتحول إلى سلعة تلبي جشع ملاك المكتبات، يفرق هنا بين دور النشر ومكتبات البيع! عبر رؤية لامست تفكير كثير من المراقبين، في تساؤلات بفرضها معرض هذا العام بقوة أكبر عن: هل نضجت العقلية الاحترافية لصناعة النشر سعوديا؟

إنه السؤال الأكثر طرحا هذه الأيام.