حين نعيد التفكير في تاريخ الصراع الحاصل بين الخطابين: الليبرالي والديني في السعودية، يحضر معرض الكتاب كأحد أهم المنابر التي يحصل فيها الكثير من الصراع خلال السنوات الماضية، وإن خفت في السنتين الماضيتين، إلا أنه عاد هذه السنة مع ندوة حول الفنون والشباب والتعايش، حيث اعترض عدد من حضور الندوة من الشباب الذين يعتبرهم البعض من المحتسبين، كما نشر ذلك في مواقع التواصل الإلكتروني والصحف السعودية على هجوم الدكتور معجب الزهراني على تحطيم التماثيل في العراق من قبل "داعش"، الأمر الذي جعل بعض الحضور يعتبرون أن تحطيم الأصنام قد كان من أهم أحداث الدعوة المحمدية في مكة، وعلى اختلاف الحدثين والمفهومين بين الدعوة في صدر الإسلام والدعوة الداعشية، وبين مفهوم الأصنام المعبودة والتماثيل الرمزية التي تدل على حضارة قبل ثلاثة آلاف سنة، إلا أن الحدثين تم الربط بينهما ليشكلا أحد مكونات التفكير الديني في السعودية. وبالطبع لست مع الربط بين "داعش" وهؤلاء الشباب المحتسبين بشكل مباشر، وإنما المسألة هي مدى تقارب المكونات الفكرية الدينية النظرية التي تجمع طيفاً كبيراً من المنتمين إلى الخطاب الديني التقليدي في السعودية دون معرفة الفوارق بين المسألتين، فالنظرية الدينية واحدة، وإن اختلفت الممارسات ما بين سلفية نظرية وسلفية جهادية، فالجهادية تذهب إلى إنزال النص على الواقع في حين تتحرج النظرية من هذا الإنزال.

والمسألة تأخذ أبعد من ذلك في قضية الاعتراض على فكرة في محاضرة وإنما يتعدى _ في رأيي _ إلى كون معرض الكتاب في الرياض أصبح أحد أهم أدوات التنوير في السعودية، حيث يحمل طابعا تنويريا مختلفا، وأكاد أقول: إنه المهرجان الثقافي الوحيد الذي شكل وعي كثير من الشباب، تمثل ذلك في عدد من الإصدارات والكتب التي لم يكن من الممكن أن تكون موجودة في متناول الجميع قبل هذا المعرض، بل تعدت أحيانا إلى جرأة غير مسبوقة قبل أن تبدأ حملات المنع المضادة للكتب التي قيل عنها إنها "كفرية" أو إلحادية كما روج لذلك من قبل. هذه الجرأة في طرح الكتب جعلت الصراع على معرض الكتاب يسير باتجاهات مختلفة ما بين نقد دور النشر، أو نقد الكتب، أو نقد الاختلاط، وحملات الاحتساب، حتى تمكنت الوزارة لاحقا من وضع حظر على كتب الإلحاد كما تتصورها الوزارة أو كما يتصورها البعض، ليسير المعرض كما هو مخطط له ليكون أكبر معرض عربي للكتاب بشهادة الناشرين العرب.

وعلى الرغم من كل ما حصل من ممانعة إلا أن النتائج جاءت لمصلحة المعرض سنة بعد سنة، حيث زادت دور النشر السعودية ذات الطابع التنويري، بعد ما كانت مقتصرة على الدور العربية غير السعودية، كما زاد عدد زوار المعرض، وتواجد الجنسين في وقت واحد صار أمراً عادياً في السنوات الأربع الأخيرة، وزاد الإقبال على الإصدارات والكتب العربية والسعودية، وبعد أن كان الإقبال على الروايات تحول بعض الشباب والكثير من القراء إلى تعميق القراءة في الإصدارات الفكرية والفلسفية، فانتشرت كتب أركون والجابري والعروي وأبويعرب المرزوقي وغيرهم، فضلا عن غيرهم من مفكري الغرب: كانت، هيجل، ماركس، نيتشه، هيدجر، فوكو... بعد أن كانت هذه الأسماء من قبيل المحظورات الفكرية.

لقد كان، ومازال، معرض الكتاب في الرياض أهم مشروع تنويري حتى الآن في السعودية، إلى درجة أنه كسر احتكار الخطاب الديني وهيمنته على العقول في سنوات مضت قاربت الثلاثين عاما، لذلك حاربوه، ولكنهم لم يستطيعوا إيقافه، بل على العكس تماما فقد سار في تصاعد حتى الآن حتى أصبح موعدا سنويا منتظرا كأهم حدث ثقافي.

لكن يأتي الاعتراض في بعض السنوات على أحداث قد لا تشكل كل تلك الخطورة التي يتصورها المعترضون، ولعل هذه المرة كان الاعتراض منصباً أكثر على فكرة التعايش مع الفن داخل المجتمع، وإلا ما معنى أن يكون هذا الجدل في هذه الندوة تحديدا، وغيابه في الندوات الأخرى؟! إلا لأن الفن يشكل منطقة الخطورة الفكرية على الذهنية الأيديولوجية لما له من قدرة على اختراق التضييق والتأثير على كل أطياف المجتمع، وكل ذلك ليس إلا حلقة من حلقات الصراع الطويل والممتد منذ عقود بين قوى التحديث وقوى التقليد في المجتمع السعودي، وهو صراع يمكن له أن ينشب على أتفه الأمور، فما بالك بقضية هي صلب عملية التحديث الفكري من خلال معرض الكتاب والدعوة للتعايش مع الفنون بأشكالها، وهو ما يمكن أن يفتح المجال الثقافي على أوسع نطاقه، والذي يمكن له أن يهز التقليديين كونهم يتعاملون مع تجيير الوعي لسياق غير سياق التحديث، ولهذا يتركز الاعتراض أكثر في كل ما له في العمل الثقافي أو الفني، أكثر من الاعتراض على الاختلال في بنية التنمية أو الفساد العام أو غيرهما.

بالطبع .. لكل إنسان الحق في أن يعترض على أي فكرة أو حدث بالطرق السلمية، وإظهار وجهة نظره، ما لم يجنح إلى العنف والتهييج، خاصة في المساحات التي تقبل الأخذ والرد في حوارية عامة مع كل أطياف المجتمع الفكرية والثقافية والدينية حول أي موضوع سوأ كان دينيا أم اجتماعيا، ذلك أن الفضاء الحواري أصبح مفتوحا على كل المجالات وليس منحصرا في المؤسسات الرسمية.