لم تكن تدرك صفية خاتوم وهي تعطي المرأة التي طرقت بابها ما سألت، أن ثمة عينين صغيرتين تراقبانها من مكان ما، تسجلان تلك اللحظات وتتابعان رقة تعامل صفية وابتسامتها اللطيفة ويدها الحانية، وتلك السعادة التي تشع من عينيها وهي تقفل الباب تزفها دعوات امرأة فقيرة بالبركة في المال والولد.
سجلت العينان ما تفعله صفية، والقلب أقسم أن يتبع سيرتها ليقول للناس يوما: لقد علمته طرقات الفقراء على باب أمه أن أمه لا ترد السائلين، بل لا تسألهم لِمَ سألوا.
كبر صاحب العينين الصغيرتين ليكون الاقتصادي العظيم محمد يونس منشئ بنك جرامين، بنك الفقراء.
عندما عاد محمد يونس إلى بنجلاديش بعد حصوله على شهادة الدكتوراه من الولايات المتحدة في الاقتصاد، وجد بلاده تئن تحت وطأة الفقر، ومليون ونصف جائع هنا وهناك، فأخذ يطوف البنوك يقدم لهم خطة لمساعدة الفقراء، عبر إقراضهم مبالغ صغيرة لبدء نشاطهم التجاري دون ضمانات.
تعجب أصحاب البنوك وطردوا الأستاذ الجامعي من مكاتبهم، لكنه لم يطرد حلمه من مخيلته.
وبعد سنوات طويلة استطاع الفتى محمد يونس أن ينشئ بنك جرامين، البنك الذي ساعد أكثر من مليوني فقير في بلاد عدة في آسيا ودون ضمانات، بل بخطة عجيبة تجعل كل فقير يشعر بواجبه في رد الدين إلى البنك، لأنه يعلم أن القسط سيحصل عليه فقير آخر وسيتحرر من الفقر كما تحرر هو.
وهكذا صار البنك منارة تعلم الناس المسؤولية، وتبحث عن الذين لا يسألون الناس إلحافا وتمدهم بكل ما يمكنه تحقيق حلمهم في غد أفضل لصغارهم دون ضمانات غير كلمة الشرف.
قال محمد إنه تعلم من أمه العظيمة أن عليه ألا يسأل الفقير عن دوافع سؤاله، ولا يطالبه بإثبات فقره، فيكفيك كإنسان أن طرق هذا الإنسان بابك ووثق في كرمك، ويكفيه كفقير أنه عانى من الحاجة، فلا مزيد من الإذلال على يد إنسان مثله!
ربما تذكرون قصة أم محمد التي كتبتها في مقال سابق، وهي ليست أم محمد يونس بل أم محمد السعودية، ورحلتها العصيبة مع وزارة الإسكان التي لم يكفها أن أم محمد زوجة لرجل معاق وعسكري سابق خدم الدولة عشرات السنين، ولديه سبعة أطفال، لكن بيانات وزارة الإسكان المتصلبة التي لا يريد موظفوها تحديثها تصر على أن لديه قطعة أرض في صحراء بيشة، لا يمكن أن يصلها الإعمار إلا بعد خمسين عاما، ورغم الاعتراضات إلا أن الوزارة تصر على الرفض، بل تبحث وتبحث فتظهر اعتراضات لتذهب أم محمد لشركة الكهرباء فتنفي شركة الكهرباء، ويدعونهم، ويمضي يومها بين سؤال هذا وهذا ليتساقط ماء الوجه على عتبات الموظفين، لتعود إلى أطفالها تعاني من الحاجة.
في الحقيقة، هذه الآلية التي تدار بها وزارة الإسكان عجيبة جدا، فهي تردد فرحة أنها حققت رغبة شباب حديثي الزواج، بينما هي صمّت أذنيها عن أسر عائلها معاق أو امرأة، وتركتهم يعانون تحت وطأة الإيجار والحاجة، بل إن شروطها خالفت الشريعة.
فإذا ملكت الزوجة قطعة أرض حرم العائل وهو الزوج من مسكن، كأنها تريده أن يتوسل إلى زوجته لتقوم بتسكينه هو وأسرته، في مخالفة صريحة للشريعة الإسلامية ولتقاليدنا العربية!
لقد استطاع محمد يونس أن يصنع الحلم لمحتاجي ثلاث دول دون أن يقدموا طلبات عبر النت، ويباغتوا برفض يعتمد على بيانات قديمة أو شروط غير منطقية تجعل المواطن يتساءل: أي قلوب هذه التي حوتها صدورهم؟ فردوا حلم إنسان ببيت يؤيه ويستر أطفاله في بلد من أكثر بلاد الله غنى بالمساحات الشاسعة والأراضي المستوية، وحكومات لا تبخل بالمال، ولكنها تنتظر الرجال الأشداء الحكماء الذين يديرون العمل ويعرفون من الأحق ومن الأولى.
لقد أراد ملكنا الراحل - رحمة الله عليه- الملك عبدالله أن يحقق لكل سعودي حلمه في البيت والمسكن والمأوى، وما زلنا نتذكر وهو يقف أمام الصور سعيدا فخورا بتحقق حلمه، لكنه رحل وما زال هؤلاء يماطلون ويماطلون، لذا عمّ الناس ارتياح عندما طال التغيير هرم الوزارة بقرار ملكي من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله- وهذا دليل على أن حكومتنا تشعر بنبض الشارع وتطلع على آلام الناس، مما يدفعنا إلى مطالبة الوزارة الجديدة بأن تكون في مستوى تطلعات الملك سلمان- حفظه الله- ولا تخيب ظنونه وآماله التي هي آمال شعبه.
إننا نطالب الوزير الجديد بإيقاف آلام المحتاجين، وأن يكون لهم عونا، فهؤلاء ينتمون إلى المملكة العربية السعودية، ولا يحق لأحد مضايقتهم ودولتهم لم تبخل عليهم، فيستحقون السعي لإرضائهم وضمان حياة كريمة لهم، كما قال الملك سلمان، حفظه الله، وأمر.