في المساء "العسيري" تصغي مسامات قلبك لذلك الشدو الطروب يفوح من حنجرة كالنبع، ويحوم فوق الرؤوس كعبير المسك، وينسرب ومضه كرقص الفراشات علي حافة الليل. تتأمل سحنة ذلك الشادي فتبصر روحه في وجهه وهي تصعد غناء وعذوبة، وتهبط كورقات الورد علي ماء الصباح، يخيل إليك أن هذا الواقف أمامك كالرمح الأخضر قد أوكلوا إليه تغذية وسقيا الليل بهذا الهمس الأبيض، والفرح المطمئن والغناء المورق كأضواء الحياة، يأتون إلي ساحة الرقص كحطب المدفأة ليشعلوا رئة المكان ببخور الكلمات، ويطرقوا أبواب الأمل بتراتيل الحلم، "قال المغني" هي قطرة الندي التي تبلل ما جف تحت حناياهم وجلودهم بفعل قسوة الأرض الرحيمة، وجبروت التحدي وضراوته، حفروا الصخر الأسود في أحشاء الجبال بأظفارهم فحولوه إلي "ركيب" مترع بالعشب والكلأ، و"حبلان" مغمورة بالسنابل والحنطة، و"كظائم" تمتد كمساقط النور الراكضة كأحصنة الريح بين الحقول، "قال المغني" هي شعرية الماء وحروف الطين في الفضاء المفتوح، لا يملون تكرارها كبشائر المطر، ولا تغيب عن أفراحهم كالربابة المعلقة علي مرايا الغبطة، تلمح عطايا قلوبهم في رعشة أصواتهم، واهتزاز قاماتهم، وانحناءة أجسادهم، وخفقة أقدامهم وترديدهم المسموع كأنفاسهم "مرني صالون فيه أربع وري واثنين قدام_ ليتني سواقهم والشايب أعمي"، تتصور المشهد وتتحسس ولع ذلك الشاعر المخادع، وطفرة شوقه المستبد وأمنياته الخبيئة والمحبطة وغير البريئة، تعود إلي الساحة وقد أغرتك شرفات البيوت وصمت الجبال، وعزف الغدران وذاكرة الليل ودفوف العشق الباذخ، فتسمع المغني "نشتري الماس من الأسواق ما نشكي غلا الماس_ نشتري الماس لصدور يغار الماس منها"، ماكرون هؤلاء الشعراء فبهذه اللغة الجبلية المنتقاة والوافرة يوقظون في دواخلنا عصافير اللذة، وتورد المشاعر وأنهار العسل المشتهي، ويبثون في أدراج قلوبنا صبح الطفولة وأصابع الحبق البري وهوادج الشمس، "قال المغني" هي مستحضرات العطر الربيعي في عسير، وكحل الزمان والدهر الشاهق، وثرثرة المحراث المتعب والصابر، وأغنية الصباح المتشح برحيق الكبرياء والمسرات، سألت "مارد" الشعر الغنائي والعاطفي في عسير "علي بن عشقه" رحمه الله، ماذا يغيضك من شعراء اليوم؟ قال: "غياب المحراف"، والمحراف عنده يعني "الجناس" كعنصر من أهم المحسنات البديعية في اللغة العربية وهي "اتفاق أو تشابه كلمتين في اللفظ واختلافهما في المعني"، ولأنه ملك الجناس في الشعر الشعبي العسيري، فقد ضرب لي مثلا علي ذلك بقوله: (يا من علي معلق يده "فاض حنا" تما علي الكفين وعلي قدمها)_ (الكهل لو يدري بنا "فاضحنا" يوجب نطي الحد و"علاق دمها").