كنت قبل أول من أمس مع والدي، يحفظه الله، وشقيقاي سامي وزياد في حضرة الملك سلمان بن عبدالعزيز أمده الله بنصره وتوفيقه.

وقد تشرفنا بالسلام عليه والاستئناس بمجالسته إلى جانب عدد من الأمراء والمواطنين.

من عادات الملك سلمان التي اشتهر بها وارتسمت بها شخصيته الآسرة حتى أصبحت علامة فارقه في سلوكه، هي قربه الحميم من المواطنين ومزاورتهم في بيوتهم وتطارح الآراء معهم، وقد سنحت لي الفرص أن أحضر كثيرا من هذه الملتقيات التي يغشاها وتقام على شرفه، وتتمثل فيها كل أطياف الوطن من العلماء والمثقفين ورجال الأعمال والإعلام والنشطاء وغيرهم.

وفي كل مرة يؤكد سلمان بن عبدالعزيز أنه الرجل الفضفاض الذي ينصت مستمعا لكل هؤلاء يتوخى قربهم ويرعى همومهم ويترصد احتياجاتهم ويعي اختلافاتهم، وهذه هي صفات الحاكم الحذق الذي يتحسس أنفاس الناس فيرد على بعض ما يعلم ويرجئ النظر في بعض ما يقتضي الإرجاء وإعادة النظر، وهكذا هو الملك سلمان في كل مراحل حياته العمرية والعملية لا ينتظر الثناء والتطبيل ولا يغضب من المخالفة في الرأي، ولا يركن إلى مكاتب العلاقات أو مديري المراسم أو حملة المباخر بل يذهب بنفسه إلى المصب فيتلقى المعلومة من المنبع.

نزل في إحدى المرات ضيفا عند الشيخ عبدالرحمن فقيه في حضور جمع من أعيان ووجهاء مكة المكرمة، وفي كلمته المرتجلة في تلك الليلة أكد على أنه يحمل نفس فصيلة الدم الحمراء التي يشترك فيها مع كل المواطنين، وفي كلامه هذا إحالة ذكية ولفتة بارعة إلى الطبقية التي كانت توصف بها بعض العائلات الأرستقراطية على أنهم من ذوي الدماء الزرقاء لتميزهم عن بقية الطبقات الدنيا، أما نحن هنا فلم نكن في حاجة لنتعرف على فصيلة دم ملكنا الذي نتقاسم معه جميع المشتركات في وطن تظلله خيمة التراحم، وتشد أطرافه أواصر المحبة لكنها روح الحاكم الفطن التي تكسر الحواجز وتذيب الفوارق.

قبل أول من أمس كان الملك سلمان بن عبدالعزيز في مكتبه كعادته، الرجل الذي يخفض جناح الحب وينشره على من حوله، وهو نفسه سلمان بن عبدالعزيز في كل أطواره أميرا ثم وليا للعهد ثم ملكا للبلاد.

فقد التفت، يحفظه الله، إلى والدي مداعبا: "ما شاء الله يا عبدالله توك شباب". وقد عقب والدي باسما: "ما عاد للشباب فيني بقيه يا طويل العمر"، ثم أمعن الملك رعاه الله حنوا ودعابة وهو يرى ذقن أخي سامي وقد علاها الشعر الأبيض فقال له: "عاد ليش لحيتك كذا تراك غديت أكبر من أبوك". وقد ضحكنا وضحك من في الجوار ثم سرنا بمعيته لأداء صلاة الظهر وفي لمحة عابرة شاهد في طريقه للصلاة رجل الأعمال المعروف محمد عبداللطيف جميل فالتفت إليه يسأله: "وشلون الجو عندكم في جدة هالأيام يا محمد؟ رد الأستاذ محمد قائلا: الجو جميل مررة يا طويل العمر فالتفت الملك يرعاه الله إلى من حوله ممازحا: تراه يقول الجو "جميل" بس علشان اسمه محمد عبداللطيف جميل".

هكذا هو الملك سلمان بعفويته العذبة وفطنته اللافتة التي تلتقط المفارقات بدقة وذكاء.

الملك سلمان هو رجل الحوار مع مختلف النخب والمشارب، وهو مزيج العزم والحزم وخلاصة الخبرات التي اكتسبها عاملا مخلصا إلى جانب إخوته الملوك الراحلين.

هو عراب التاريخ المحلي الذي اهتم به وجمع شتاته وشوارده، يوثق مخطوطاته ويُرتّق ما تهتك فيها وينفخ من روحه في مندثرها حتى صار موسوعة في مختلف ومؤتلف تاريخ المملكة والجزيرة العربية، وهو رائد الأعمال الخيرية ومبدعها وراعيها.

هو بعض ذلك وكل ذلك، وفوق ذلك ملكا حكيما وأبا رحيما، حفظه الله، وأمده بعونه وتوفيقه وسدده في كل خطواته الحثيثة لنقل بلادنا إلى العالم الأول.