في مكان ما، في دولة ما، في زمان ما، جاء إلى الدنيا طفل ما، فحمله أبوه فرحا مستبشرا بهذه الهبة الإلهية، وبينما هو في غمرة سعادته التف حوله نفر من الإنس وقالوا: قد أمرك الشرع بأربع هن في حكم الواجبات: أن تؤذن في أذني طفلك ليحميه الله من الحرام، ثم اذبح له فإن لم تفعل تكون قد ارتكبت حراما، بعدها قم بتطهيره فترك المولود بلا تطهير حرام، وآخر متطلبات هذه المرحلة أن تأخذه إلى طواف بيت الله الحرام.

كبر الطفل حتى بلغ عامه الخامس، فجاء نفر آخرون وأخذوا ينصحون أهله لوجه الله، أدخلوه في التحفيظ فبالقرآن سيحفظه الله من الحرام، ثم افصلوا بينه وبين أخته عند المنام مخافة أن يُوسوِس لهما الشيطان بارتكاب الحرام، ويا حبذا لو منعتم عنه قنوات الأطفال فإنها –من باب الاحتياط- حرام.

كبر الطفل إلى أن بلغ عامه العاشر، فصرخت نسوة في أمه: لا تدخليه علينا فعوراتنا عليه باتت حراما، لا تجعليه يجالس بناتنا فمخالطته لهن حرام، وليتك تتقين الله وتخرجيه من المنزل إلى أن تنقضي هذه السهرة، فوجودنا معه تحت سقف واحدة حرام، دعيه يخرج بالله ولكن تأكدي قبلها أنه برفقة صالحين يمنعونه من الوقوع في الحرام.

كبر ابن العاشرة وبات شابا في العشرين، فجاءه الناصحون ينصحون: لا تدخل السوق فأنت في سن الهيجان ونحن لن نسمح بالحرام، ثم لا تستمع إلى المعازف والغناء فهذه أدوات الشيطان ليميت بها القلب فيضعف الإنسان حينها أمام الحرام، ثم لا تكثر من الجلوس أمام التلفاز فالعري والرذيلة يسهلان عليك ارتكاب الحرام، ولا تلبس هذا البنطال فالتشبه بالكفار حرام.

كبر الشاب وتخطى عامه الثلاثين، فخطبت له أمه ابنة الجيران، وبعد الزواج جاءه جمع من الناصحين: لا تسمح لها بالعمل في "المحاسبة، التمريض، المحاماة، الكاشير.."، لا تدعها تعمل من الأساس فالمرأة "جنتها بيتها"، قد تخرج فعلا لطلب الرزق لكنها سريعا ما تضعف لتكون فريسة حينها لكل حرام، ثم في حال خروجك معها لا تجعلها تكشف عن وجهها أو يديها أو عينيها، وعليها أن تمشي كالعسكر، وألا ترفع صوتها أثناء الحديث، فلا تدري بماذا يفكر أبناء الحرام، ثم ومن باب الحيطة والحذر أخبرها بأن جلوسها أمام النساء بلباس لافت قطعا حرام.

كبر ابن الثلاثين وخطى أولى خطواته نحو المشيب، بلغ للتو عامه الخامس والأربعين، وفي الاستراحة بادر أحد الأصدقاء بالحديث قائلا: بالأمس حدثنا الشيخ عن المذاهب الغربية والفلسفات الشرقية والتفرعات الإسلامية وقد وضح –جزاه الله خيرا- كيف أنهم جميعا على حرام، وقد سأله سائل عن حكم الاستماع لمجموعة من الشيوخ والعلماء المسلمين فأجابه بأنه من الأحوط القول إن الاستماع إليهم حرام.

غزاه المشيب، واستولى البياض على شعره تماما، تخطى عامه الخمسين، وحين همّ بفرز الأدوية والعقاقير نظر إلى جواله، كان المتصل أحد الأصدقاء القدامى، أخذا يتحدثان عن ذكريات السنين، إلى أن قاطعه الصديق سائلا: ما الذي يشغلك هذه الأيام؟، فقال: أراني بدأت أطرب لقراءة القصائد وبعض النثريات من هنا وهناك، فقال الصديق: أتطرب وقد غزاك المشيب؟!، اتق الله يا رجل، أنت في آخر أيامك فاختم حياتك بعمل صالح، ودع عنك هؤلاء فإنهم يدسون في لحن القول كثيرا من الحرام.

تساقط شعره ووهن العظم، ناهز الخامسة والستين دون أن ينتبه، جلس على أريكته وراح يقلب بين القنوات، من قناة إلى قناة، من صحيفة إلى صحيفة. مذيع في قناة "يرغي": إن خلف الأحداث العربية الراهنة لفيف من أبناء الحرام يتآمرون علينا، يغير القناة لتصرخ امرأة مسنة: يلي عم يسير حرام، يغلق التلفاز ويأخذ الصحيفة فيقرأ: هذا وقد صدر بيان رفيع المستوى بأن التشكيك في كل شيء حرام، كما ونُهيب بأن كل نصح إن لم يكن همسا فهو بالضرورة حرام، وقبل أن يغلق الصحيفة يصدمه خبر في حيثياته: قد أفتى الشيخ الفاضل بأنه حتى الإنكار بالقلب حرام.

أشاح الشيخ بنظره عن الإعلام، خلع نظارته، ثم توجه إلى حفيده ابن السنتين، راح يلاعبه ويضحك معه إلى أن انتابته راحة غريبة وشعور عميق بكرم الحياة، فحمله وأخذه إلى النافذة ليشاهدا سويا منظر السيارات والزحام، فقال الجد: ضاع العمر وما عاد ينفع الندم، هل ترى هذه المدينة يا صغيري؟، هذه مدينتي، هي جزء مني، جزء تهت عنه وتاه عني، قد قضيت فيها عمري كله وأنا لا أخطو الخطوة إلا بعد ألف استفتاء. هنا يا صغيري آلاف العـارفين والكل خائف من الوقوع في الحرام، كأنني وأنهم نعيش في حقل من الأشواك، لا نتقدم أبدا خوفا من السقوط في الحرام!