تحدثنا في مقال سابق عن (الأنا) والعواطف، وعرفنا أن المشاعر والعواطف هي في حقيقتها (طاقة).. يمكن أن تخزن في ذاكرة كل خلية من خلايا الجسد البشري وتؤدي إلى الآلام والأمراض والأسقام، ورأينا كيف أن الجسد في المواقف الحرجة يحتاج إلى ردود فعل سريعة أكثر من تفكير استراتيجي متأنٍّ ومنطقي، وهو ما يسمى باختطاف العقل (Brain Hijack)، وهو نظام رد فعل فسيولوجي رائع إذا فعِّل أثناء الخطر الحقيقي، فكثيرا ما ينقذ حياة الإنسان.
ولكن هذا النظام هو نفسه الذي يفعل أثناء الإحساس بالمشاعر والعواطف السلبية، فرغم أن الجسد بالغ الذكاء، إلا أنه لا يستطيع التمييز بين خطر حقيقي وشيك الحدوث وبين الأفكار التي ترسم في الدماغ صورة الخطر وإن لم يكن موجودا إلا في تصور ومخيلة وافتراض عقل الإنسان، فتفرز هرمونات التوتر تماما كأننا نواجه خطرا حقيقيا، فتتسارع دقات القلب ويرتفع الضغط ويتسارع التنفس وتتقلص عضلات الجسم، حتى وإن كان الواحد منا متلحفا بغطائه ينعم بدفء فراشه ليلا. فلا فرق بينهما على المستوى الفسيولوجي وإن كان أحدهما على أرض معركة فعلية يصارع الموت، والآخر على فراشه يصارع (الأنا) التي فيه.
ليس هذا فحسب، ولكنني لم أكن أعلم سابقا أن هذه الطاقة السلبية التي تولدت يعود جزء منها إلى الدماغ ليغذيه بالمزيد من الأفكار السلبية، وجزء منه يتحول إلى سموم تضر بالجسد، وبذلك يدخل الجسم في دائرة مغلقة شريرة، فالأفكار السلبية تغذي العواطف، والعواطف السلبية تعود لتغذي الأفكار، وعندما تغلب هذه المشاعر السلبية على الإنسان وتستمر لفترة طويلة، فإنها تؤدي لتدهور الملكات الإدراكية للعقل، وتفقد صاحبها القدرة على التركيز والتفكير بوضوح، بل وعلى المدى البعيد تغير طريقة النظر للمواقف ليتم تصنيفها دائما وبسذاجة على أنها جيدة أو سيئة ولا شيء بينهما، وفي ذلك تسطيح للحياة ليصبح صاحبها أقل حكمة تتحكم فيه عواطفه ومشاعره كريشة في مهب الريح، ولا حول ولا قوة له في دفعها أو إيقافها أو معالجتها.
تذكرت هنا كيف أننا عندما نقول عن شخص إنه إنسان عصبي فإننا كذلك نقصد أنه غير حكيم، والعكس صحيح، فالحلم من الحكمة والحليم حكيم.
توقفت سائلا: لماذا أؤذي نفسي بيدي؟ من وراء كل هذه المشاعر والعواطف السلبية السامة المدمرة لصحتي جسدا وعقلا وروحا؟
بحثت.. فوجدت الإجابة واضحة جلية في مئات الدراسات في العلوم النفسية والدينية، وأصابع الاتهام كلها تشير إلى (الأنا).. (الأنا) المتمثلة في صورة الأفكار السلبية المستمرة في الدماغ، وتفاعلها مع الجسد لتنتج المشاعر والعواطف السلبية، هذه الأفكار السلبية المتكررة التي تسرق العقل للماضي والمستقبل هي أفكار قهرية متكررة متواصلة لا تهدأ، وهي مجموعة الذكريات والفرضيات التي يتماهى معها الإنسان فتغذي الأنا وتضخمها، مثل (أستحق أفضل من هذا، أو أراد أن يهينني، أو لم يعطني قدري) فيكبر الحدث الصغير في عين صاحبه، فيطلق الأحكام يلوم ويتهم ويُخون ويشخصن المواقف والأحداث.
ولذلك فعندما تتفاعل هذه الأفكار مع الجسد فإنها تنتج مشاعر وعواطف سلبية مبررة لهذا الإنسان بما غذاها العقل من أفكار سلبية.
أدركت أن كل جسد بشري يعاني قدرا كبيرا من الإجهاد والضغوط، ليس بالضرورة لأنه مهدد بمخاطر خارجية حقيقية، بل لأنه مهدد ومسيطر عليه من داخل عقله، نتيجة أفكاره وتصوراته السلبية.
ولكن ما هو الحل إذا؟ وكيف تتم المعالجة؟ قادني البحث إلى اكتشاف عالم الوعي، فالعلاج يبدأ بإدراك أننا لسنا أفكارنا وعواطفنا، وإنما نحن ذلك الوعي الذي يعي ويرى ويراقب الأفكار والعواطف، الوعي هو ذاتنا الحقيقية، نفخة الرحمن التي فينا، أما الأفكار والعواطف فهي صور وأشكال لانعكاسات ظروف الحياة، مجرد ظروف حياة.
الوعي هو الذي يستطيع أن يفرق بين ذاتك الحقيقية وعواطفك وأفكارك التي هي جزء من (الأنا) التي فينا، وبمجرد مراقبة الأفكار عن بعد من قبل الوعي تفقد الأفكار قوتها لإدراك الإنسان أنها مجرد صور وأشكال، فلا يتماهى معها وتنشأ بذلك مساحة بين الإنسان وأفكاره، هذه المساحة من الوعي تجلب للإنسان الحضور والسكون، ويصبح الوعي هو الحارس الرقيب على الأفكار والعواطف.
سألت نفسي: ما الفرق بين العواطف التي تولدها (الأنا) والعواطف التي تولد من الذات الحقيقية؟ وجدت الجواب في كتاب أرض جديدة لإيكارت تولي (Eckhart Tolle) فهو يفرق بين عواطف (الأنا).. والعواطف العميقة التي تولد بقرب الإنسان من مصدره، من روحه وذاته الحقيقية.
أما العواطف التي تولدها (الأنا) فإنها وإن بدت إيجابية فإنها تحتوي داخلها على نقيضها الذي يمكن توليده سريعا، فما قد تسميه الأنا حبا قد يكون تعلقا هوسيا إدمانيا يمكن أن ينقلب إلى بغض وكراهية، فكم من علاقات الحب والعشق الحميم انقلبت بعد حين إلى بغض وكراهية. وكذلك مبالغة (الأنا) في تقييم المستقبل يمكن أن يحول نشوة ولهفة حدوثه إلى حزن واكتئاب نتيجة خيبة الأمل بانتهاء الحدث دون تلبية توقعات (الأنا)، كم من مناسبة أو حفل تكريم انتظرته بفارغ الصبر فلما جاء لم يكن كما توقعناه، أو حتى تحقيق توقعات (الأنا)، ولكن زوالها بعد حين لعدم قدرتنا على الحفاظ عليه، كالحصول على المرتبة الأولى عاما وفقدانها العام الذي يليه.
إن سبب وجود هذا النقيض هو أن كل هذه العواطف المتولدة من (الأنا) هي صورة من صور التعلق بالعوامل الخارجية التي من طبيعتها التقلب والتغير والزوال، أما العواطف المتولدة من المصدر، أي من الروح فليس لها صورة مضادة عكسية، ليس فيها نقيضها، فهي مشاعر روحية سماوية قدسية من نفخة الروح التي فينا، هي عواطف ومشاعر سامية كالحب الحقيقي الخالص المتجرد والتعاطف والرحمة، وكلها تعمل عملها في الإنسان لتجلب له السكينة والطمأنينة والسلام الداخلي والسعادة الحقيقية.
حقا إن عواطف (الأنا) عواطف دنيوية أرضية تحبسنا لنعيش في المحدود، أما عواطف الروح فهي عواطف نقية سماوية تحررنا لنعيش في اللامحدود. وهنا يأتي دور الصلاة التي نقيمها خمس مرات في اليوم إذا أديناها حق أدائها لا كحركات شعائر، بل التقاء الجسد والعقل بالروح لإيقاظ وعي وتصحيح مشاعر.
تيقنت أن الله قد ملك الإنسان مفاتيح تغيير نفسه، فبيقظة الوعي وإيجاد المساحة بين الذات الحقيقية وبين صور وأشكال الحياة بما فيها الأفكار والعواطف، يستطيع الإنسان أن يحمي نفسه من أن يصبح رهينة أفكاره وعواطفه، فأنا لست أفكاري، وأنا لست مشاعري، وأنا لست عواطفي، بل أنا انعكاسات كل ذلك على ذاتي الحقيقية، على النفس، وبحمايتها تسمو النفس وترتقي إلى مقام الطمأنينة، وهل هناك غاية من خلقي إلا أن أعود إليه سبحانه بنفس مطمئنة.. "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَة مَّرْضِيَّة فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي".
تيقنت أن كثيرا من أمراضنا إنما نجلبه لأنفسنا بأنفسنا، في حين أن الله سبحانه وضع الدواء بين أيدينا، هنا تجلى لي المعنى العميق لكلمات سيدنا علي -رضي الله عنه- عندما قال:
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وما تُبصر
وتحسب أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المُضمَر
فلا حاجة لك في خارج يُخَبَّر عنك بما سُطر.