تحتشد القصيدة الحديثة وتميل إلى طرازات تعبيرية مغايرة للسائد والحمولات الغائرة في الذاكرة الشعرية، فهي لا تعترف بالتجنيس الإبداعي وتؤمن "بالقرابة البنائية بين الفنون المتباعدة والنصوص المتباينة"، كما تكتظ وتعني بالتقاط التفاصيل اليومية والهامشي منها بالذات، ما جعل الباحثين يطلقون عليها "القصيدة الشيئية" أو "القصيدة اليومية"، وقد بدأ الاهتمام بهذه الظاهرة منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم، حين انصبت بعض الدراسات علي شعر "عباس العقاد" واهتمامه بالمواضيع اليومية، وقد انفتحت هذه الرؤية وجمالياتها الجاذبة والفائقة ومجترحها التجديدي من خلال حنجرة الشاعر "صلاح عبدالصبور" في قصيدة "الحزن"، "يا صاحبي إني حزين، طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح_ وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المباح_ ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش_ فشربت شايا في الطريق ورتقت نعلي ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق_ قل ساعة أو ساعتين قل عشرة أو عشرتين". وقد استفز هذا الهامش المنسي والفعل الشعري الباحث "آدم يوسف" ليشتغل علي البحث في أضابير "قصيدة التفاصيل اليومية في الشعر الخليجي المعاصر"، إذ أكد أن القصيدة في الخليج العربي تأثرت بعنصرين هامين، شكل الجملة الشعرية من حيث اللفظ والمعني والرؤي الكامنة، المدينة من حيث هي ازدحام بشري وأسلوب حياة متسم بالجفاء والغلظة ورحابة الصحراء، والحنين المستمر إليها وأسلوب الحياة فيها، يقول الشاعر علي الصافي (المدينة حتف القرية_ أخرج من قريتي ألوذ بالحتف_ الأوراق أخشاب وأصابعي كبريت_ جمر يسمر في صدري وكل ما حولي تافه مدن ألقت جثثنا خارجها حين جئناها)، وفي السياق ذاته وتلك المفردات التي يتداخل فيها الحنين إلى بساطة الحياة في البادية، مع صدمة المدينة وصرامتها، نجد هذا المقطع للشاعر صلاح دبشة "أبي يقلب قنوات التلفاز كل يوم_ بحثا عن بعير_ أو صحراء ينبت فيها النوار_ ليتسني له أن يمد رجليه_ ويحتسي القهوة)، ولكن الشاعر سيف الرحبي مسكون بهاجس الرحيل كما يقول آدم يوسف، فهو يتأرجح في المدينة بين حالتين غرفته الموحشة والمقهي المحاط بالضجة، (في الصباح عندما أستيقظ يستيقظ العالم في رأسي بكائناته وزعيقه الذي يهرس العظام_ أغادر غرفتي التي تشبه كهفا مليئا بالقتلي وأدلف المقهي_أحدق مليا في الفنجان الشبيه بأفعي مسترخية في ظهيرة صيفية وأفكر أنه فنجاني الأخير في هذه المدينة_ لكن النهار ما زال في أوله)، ويبدو الفائض الشعري في قصيدة التفاصيل اليومية الخليجية في الارتماء الإنساني الملموس والواضح، فهنا شاعران يتحدثان عن (عمال النظافة) يقول دبشة: (عمال النظافة يمسحون المدينة بأجسادهم_ يلملمون أخلاقنا من الشوارع_ أخلاقنا التي أتعبتهم وعلقت أفكارهم علي الحائط)، ويقول دخيل خليفة: (كل صبح يمكيج وجه الطريق_ ويغسل أوساخ ليلتنا ويهيم علي سلم الحلم).