"يتعلم أطفالنا يوميا في المدارس الحكومية والأهلية أنه لا يجوز لهم السلام على غير المسلمين". هذه حقيقة على أرض الواقع تعني أن الطفل السعودي يتعلم منذ سنينه الأولى أن بينه وبين أكثر من خمسة مليار إنسان في العالم مشكلة تمنعه من تحيّتهم. وفي المستقبل سيتعلم هذا الطالب أن هذه الدائرة ستتسع مع الوقت لتشمل ملايين البشر الذين كان يعتقد أنهم مسلمون ليتضح لهم أن إسلامهم ما هو إلا غطاء لكفرهم الصريح. يتعلم هذا الطالب أن الشيعة فرقة ضالة يجري عليها ما يجري على غير المسلمين وأنّ الأشاعرة ما هم سوى خلف لمشركي قريش وبئس الخلف والسلف.
لاحظ هنا أن ما يجري ليس إعدادا لشخصية مستقلة تعتقد أنها تختلف عن غيرها بل هو إعداد لشخصية لديها مشكلة مع العالم، مشكلة تمنع من التحية. ومن المعلوم أن رفض بدء التحية هو موقف عدائي مضمر وخطير. وإذا كانت تحية السلام تعني الأمان والسلم فإن حجبها عن ذات معينة يعني حجب هذه القيم أيضا. فأنا لا أسلّم عليه بمعنى أنني لا أعطيه حق السلم والأمان. يأتي هذا التوجيه في سياق تحديد موقف الطالب من العالم فالطفل ينشأ اليوم في مجتمع متنوع بشكل كبير سواء على أرض الواقع أو من خلال وسائل الاتصال بمعنى أن الطفل ينشأ في محيط تتعدد فيه الأعراق والألوان والديانات والجنسيات، الطفل السعودي مثلا يعيش في وسط يشمل المسيحي والبوذي والهندوسي والآسيوي والأفريقي وغيرها من التنوعات الكبيرة. يأتي التعليم النظامي هنا ليحدد له طبيعة علاقته من هؤلاء المختلفين عنه. أغلب أنظمة التعليم في العالم اليوم تجعل من أولوياتها أن تساعد الطفل على أن يحب هذا التنوع ويفتخر به ويشعر أنه فرصة جميلة ليعيش في بيئة غنية بالآخرين المختلفين. تؤسس هذه الأنظمة لفكرة أن اختلاف الناس لا يعني أن أحدهم أفضل من أحد بل هو دليل على حرية البشر وخياراتهم الخاصة التي يجب احترامها. في المقابل نجد أن الطفل السعودي يتعلم العكس تماما. فهو يتعلم أن هناك مشكلة جذرية مع الآخرين، مشكلة تمنعه حتى من إلقاء التحية على الآخرين المختلفين معه في الشارع.
بحسب علم النفس فإن التعليم يشارك في تأسيس الأنا العليا أي الضمير الذي يمثل النموذج للسلوك والأخلاق، هذه الأنا العليا تبقى في كثير من الأحيان لا شعورية ولكنها عميقة التأثير. من المعلوم أيضا أن البشر لا يطيعون الأنا العليا دائما، بل يخالفونها في كثير من الأحيان ولكنها تبقى ذات تأثير نفسي عميق قد يصل إلى أمراض نفسية معقدة نتيجة الاضطراب بين القيم والممارسة. التعليم أداة خطيرة لتشكيل القيم والأخلاقيات (الأنا العليا) والمعلمة أو المعلم بالنسبة للطفل إضافة للكتاب المدرسي تعبير عميق عن "الحق" و"العدل" وكل القيم المطلقة. ومن هنا يرى كثير من التربويين أن النظام التعليمي هو نظام أيديولوجي أكثر من النظام السياسي نفسه. أي أنه نظام يخدم مصلحة واضعيه بطريقة خطرة وذات تأثير عميق على الأجيال. فإذا كان الناس يرتابون كثيرا في الخطابات السياسية فإنهم يطمئنون ويسلّمون بالخطاب التربوي مما يجعل أفكاره تتحول إلى أنا عليا تشكل نظرتهم لأنفسهم وللحياة والآخرين.
هذه الأنا العليا، المشكّلة بدرجات مختلفة من نظام التعليم، والمستقرة غالبا في اللاوعي لها درجات من التأثير العملي فالإرهابي الإسلامي مثلا هو طرف حاد لهذا التأثير، فعدم السلام يعني أننا في حالة حرب مع غير المسلمين (كل العالم بما فيهم جزء كبير ممن يسمون أنفسهم بمسلمين)، حالة حرب حولتها الجماعات المسلحة إلى واقع على الأرض. في درجة أقل عملية نجد الفكر المتطرف الآخر الذي يقبل بعلاقة مادية بحتة مع الآخر مع الإبقاء على علاقة عداء معه. وإذا كان الآخر في مجال سلطته فهو مجرد من الحقوق الإنسانية ماعدا تلك المتعلقة بالحياة والمال. نصل بعد ذلك إلى طبقات في الوسط تتعامل مع الآخر بشكل جيد ولكنها تبقى تدور في مدار الفكرة الأساسية (نحن حق كامل وهم ضلال كامل). أي أنها تبقى مرتابة وتشعر بالقلق وربما بالتناقض. هذه الفئة عرضة مستمرة لرياح التعصب والتطرف لتسحبها باتجاه تأجيج الصراع. باعتبار أنها الفئة التي لا تزال ضمن إطار الأنا الأعلى المتعصب ولكنها تتخلص على المجال العملي استجابة لطبيعة الحياة الإنسانية. في القابل فئة قليلة تستطيع أن تفتح حوارا صريحا مع مبادئها وقيمها العليا وتعيد التفكير فيها من جديد. هذه الفئة لديها فرصة كبيرة للوصول إلى حالة طبيعية وسلمية متوازنة وواضحة مع الآخرين والعالم وهي الفئة القادرة على مواجهة أفكار التطرف والتعصب وحروب الأديان والطوائف التي تلوح في الأفق.
الابتعاث اليوم فرصة لمراقبة وتتبع تأثير التعليم العام على الطالبات والطلاب السعوديين مع الآخرين ومن خلال مشاهداتي الشخصية يمكنني القول: إن الأنا العليا العدائية والمرتابة من الآخرين لا تزال ذات تأثير عميق. العلاقة مع الآخر وإن كانت في ظاهرها طبيعية ولكنها تحمل في عمقها شعورا بعدم الأمان والتوتر. من السهل ملاحظة شعورنا بأن الآخر يريد مهاجمتنا أو الانتقاص من ديننا أو أنه يضمر لنا العداء حتى ولو لم يظهره. خارج الفصول تدور حوارات طلابنا عن التفسيرات السيئة التي كان الأستاذ أو الأستاذة يقصدونها في الدرس. هناك حسابات غير طبيعية وتشكك في الآخرين ولذا تجد كثيرا أن الطلاب والطالبات لا يحبون الحديث عن أنفسهم أو بلدهم عند الآخرين خشية أن يتم تفسير هذا الكلام تفسيرا مشبوها. لكن ما يجعل من الصورة أقل قتامة أن فرصة الأفراد اليوم أكبر في خوض تجربة شخصية مع الآخر والحكم عليه من قرب دون الاستسلام لقوالب معدة مسبقا، من الجميل أن تأثير واضع المقرر الدراسي يقل يوما بعد يوم.