أن تقول أي شيء فهذا لا يعني بالضرورة أن ما تقول له معنى، فالمجنون أيضا يقول أشياء كثيرة لكنها بلا معنى، إذاً لكي يكون لقولك معنى فلا بد وأن تكون أفكارك منظمة وعباراتك مترابطة، حينها سيكون لقولك معنى لكن ليس بالضرورة هنا أن يكون للمعنى الذي أوجدته قيمة، ولن أخبرك كيف تجعل لمعنى كلامك قيمة، لكن سأخبرك كيف أننا بارعون في تكوين الكثير من المعاني التي لا تحمل أي قيمة.
أحد الأمثلة التي توضح مدى براعتنا في صناعة الكثير من المعاني التي لا تحمل قيمة هي "نظرية المؤامرة"، ها أنت ترى المهووس بنظرية المؤامرة بارعا جدا في تنظيم أفكاره واختيار كلماته من أجل أن يصنع أمامك معنى متكاملا يبدو لك للوهلة الأولى أنه صحيح تماما، لكنك حين تمعن النظر تتأكد بأن ما قاله لا يختلف أبدا عن أحاديث المجنون إلا في جزئية أنه كلام منظم مترابط وله معنى.
ولكي تتأكد أن الغالب على نظرية المؤامرة أنه بلا قيمة، حاول وقت فراغك أن تلعب لعبة بسيطة، قم بجمع ما تستطيع من عبارات وردت فيها كلمة "مؤامرة" سواء في الإذاعة أو التلفاز أو الصحف أو مواقع التواصل ثم استبدلها بإحدى الكلمات التالية "كائنات فضائية، عفاريت، زوار سفارات، مجوس" ثم لاحظ أنه وبرغم تغير الكلمات فعليا إلا أن المعنى في كل العبارات بقي كما هو ولم يتغير.
لا يوجد سر هنا، كل ما في الأمر أنك تتعامل مع عبارات لها معنى واضح، لكنه فارغ، مجرد عملية تنظيم احترافية للأفكار والكلمات داخل الكلام لتوحي لك بأن قائلها فاهم فعلا!، وهنا مربط الفرس، أن أحد أهم الغايات من كل هذه العملية أن تأخذ انطباعا بأن الذي يتحدث أمامك فعلا فاهم وليست الغاية أبدا أن تفهم فعلا ما يدور حولك.
إن الغبي يستطيع أن يظهر أمامك بمظهر الفاهم جدا حين يقوم بربط كل شيء بكل شيء آخر، فيخرج بمفاهيم عديدة يشرح بها كل شيء دون أن تفهم منه أي شيء، لكنك في الوقت نفسه تقتنع بأنه فعلا فاهم في كل شيء بدلالة أنك لم تفهم منه أي شيء، فهمت شيء!!، حسنا، إنه يقوم أمامك بتفكيك أصعب الألغاز وحل أعقد الربطات والكشف عن أعمق الأسرار وتعرية أكثر المنظمات سرية، حينها من الطبيعي جدا أن لا تفهم إلا شيئا واحدا وهو أن الغبي فعلا فاهم!.
إن هذا النمط من التفكير قائم على عنصر التشويق، وطالما الأمر تشويق فلا بد أولا أن تقوم بتغييب عقولهم ثم تبدأ أمامهم برسم معان ومفاهيم لن توصلهم إلى شيء، لكنها ستجعلهم يتشوقون، ومن أجل زيادة التشويق لا بد وأن تستحدث لهم مجموعة من الكلمات التي لا تشرح أي شيء ثم تحشرها في كل شيء، هنا لا يهم في الحقيقة أن يأتي غيرك ليستبدل كلمة محل أخرى، لأنك في الأساس لم تكن تريد أن تقول لهم أي شيء إنما أن تجعلهم يقتنعون بأن هنالك شيئا يتحرك في الخفاء!.
قل لهم مثلا إن في الخفاء وحشا بمئة رأس يسحبكم إلى القاع، سيصدقونك فورا وإن لم يقتنعوا بكلامك، سيصدقونك لأن إيمانهم بوجود وحش بمئة رأس أسهل عليهم من الإيمان بأنهم السبب في هذا السقوط، سيصدقون كل هراء تقوله لأن الهراء الذي تقوله يجعلهم يشعرون بالارتياح، لن يصدقونك لأنك متقد الذكاء إنما لأنك أوجدت لهم الشماعة التي يحتاجونها بالضبط ليعلقوا عليها أوزارهم.
قل لهم إن في الخفاء وحشا بمئة رأس يسحبكم إلى القاع، ثم تأمل كيف أنهم لن يهربوا منه، بل سيتربعون ثم يأخذون في شتم بعضهم البعض، وسيتهمون من لا يصدق بوجود الوحش بأنه متعاطف مع الوحش، بعدها سيقومون بربط كل شيء بالوحش، انتشار الجهل بينهم بسبب الوحش، صحتهم في نزول بسبب الوحش، تردي أوضاعهم بسبب الوحش!، إن كل المطلوب منك أن تقول بأن هنالك وحشا في الخفاء وسيتكفلون هم بجعله جوابهم الجاهز الذي يشرح كل شيء.
الآن، لنعود إلى لعبة السابقة، قم بحذف كلمة "وحش" ثم استبدلها بكلمة "إخوان" ثم تأمل كيف أنه لم يتغير المعنى أبدا، لماذا مسمى الإخوان؟ لأنه مسمى لم يتم مضغه جيدا بعكس المسميات السابقة التي بليت من كثرة المضغ "جن، عفاريت، صهاينة، مجوس، إبليس اللّعين"، تلك مسميات ما عادت قابلة للمضغ أكثر، لهذا لا بد من استحداث مسمى جديد للوحش ذي المئة رأس.
ابنك يعاني من صعوبة التعلم؟! لا تبحث عن الأسباب، لا تبحث له عن علاج، قل فقط بأن السبب هو أخونة التعليم، ثم ابدأ بالصراخ في وجه كل من ساعد على أخونة التعليم، ستنام بعدها مرتاح البال وسيستيقظ ابنك وهو لا يزال يعاني من صعوبة التعلم!، الموضوع بسيط بشرط ألا تفهم.
إنني هنا لا أدافع عن الإخوان، إنما أستقبح وضعهم جوابنا الجاهز الذي نشرح به كل شيء، أستقبح الدرعمة بمضغ كل مسمى يتم استحداثه للوحش، أستقبح أخونة الوحش!، نعم الإخوان فاعلون في تردي الحال ولا أشك، لكنهم رأس وباقي للوحش تسع وتسعون رأسا.