قالت لي طفلة صغيرة ذات يوم: "أنا أتحجب ليس لأن الحجاب يحميني، بل ليعرف الناس هنا أني مسلمة"، هزتني تلك الكلمات ووجدتني أتساءل: كيف أدركت هذه الطفلة حقيقة أن كل ما يفتقده هذا العالم هو ميزة عندها؟ لكن السؤال الأهم كان: هل سيبقى هذا الإسلام لتفخر به طفلة بعد مئة سنة من الآن مثلاً؟

يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/ 198) عن رفع القرآن من الصدور: "فإنه يُسرى به في آخر الزمان من المصاحف والصدور فلا يبقى في الصدور منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف"، وفي أثر "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا نسك ولا صدقة".

مع كل هذه الأحداث التي نراها اليوم والظلمة التي تغشى مبادئ الإسلام وكل هؤلاء المتصدرين للمشهد الدعوي من قافز الأكروبات ومحطمي الأعواد ومبكي الأطفال التائبين لصاحب نظرية الكوب في كروية الأرض إلى وحشيات داعش، هل تظن أن ما قاله ابن تيمية أو عشرات الآثار التي تذكر نهايات الإسلام سيحدث حرفيا أو ما يحدث اليوم هو مجرد الحلقة الأولى في اندثار عظمة هذا الدين؟

إذا كنت مثلي ترفض أن تقف مكتوف اليدين وهذا الأمر يحدث لدينك فما نسكت ونستحي أن نقول: توقف، من أعطاك الحق لتشوه وجه الدين هكذا، ونعيد معا وصية سعيد بن المسيب الخالدة: "إن هذا الأمر دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"، إن هذه ولا شك معركة الإسلام الأهم، وربما تكون الأخيرة تجاه من شوهوا الإسلام واستبدلوه بنسخة من بنات أفكارهم.

وبما أننا لم يعد لدينا رواة حديث، بل رجال يتصدرون للفتوى والتنظير؛ فإن زماننا بحاجة إلى أن يضع شروطه فيهم مثل ما فعل سعيد -رضي الله عنه- ورجاله عندما صنعوا الأسانيد ونقد الرجال، وذلك لن يكون إلا إذا أنقذنا المشهد الدعوي من مدعي العلم الشرعي وأجبرنا المتصدر على إحضار رخصة تتضمن تخرجه من كلية شريعة.

وهذا يقودنا لرفع كفاءة كليات الشريعة وجعل مستقبلها أكثر جاذبية بإعطاء الدعاة والوعاظ مكانتهم ماليا، أما المعنوية فمجتمعنا بطبعه يحترم الدين وأهله.

إن جعل مستقبل خريجي الشريعة مضمونا فيما يخص الوظيفة والمكانة سيجذب أصحاب العقول الكبيرة لدخولها وليس الفاشلين دراسيا، وبالمناسبة الخليفة الداعشي أبوبكر البغدادي حاول أن يدخل كلية القانون فرُفض لضعف درجاته في الثانوية العامة فتقدم لكلية أخرى ورُفض، ثم تم إرساله لكلية الشريعة حيث يرسل الطلاب الأضعف علميا.

إن سيرة الخليفة الداعشي الفاشل هي حقيقة ما يحدث اليوم، فالعقول المميزة تتجه لدراسة العلوم لمستقبلها الباهر ممّا جعل كليات الشريعة في العالم الإسلامي للأسف الشديد تخفض معاييرها لتستمر في فتح أبوابها، ولسوء الحظ يدخلها رجال قد يكون منهم من ليس أهلا لفهم الفقه الإسلامي العظيم أو الحديث الشريف؛ فيأتون بفتاوى تجعل وسائل الإعلام الأجنبية تستبدل الاستاند كوميدي فيها أو فيلم السهرة بمناقشة فتوى تتعلق بالنساء أو نظرية الكوب في إثبات عدم كروية الأرض. إن هذه الحملات لا تكلف مناهضي الإسلام أي جهد؛ لأن الأمر يقدم لهم كأنه هدية ليلتفتوا للناس في العالم ويقولوا: هذا هو الإسلام.

ثم إن كليات الشريعة تعرضت على مدى عقود فيما تقدمه من مواد علمية لإرهاب فكري شمل كل المناهج الدراسية التي تستهدف تنمية علوم الفكر والجدل والمناظرة والفلسفة واللغات وكل ما ينمي العقل ويجعل طالب العلم الشرعي على دراية بكل ما يخص الإقناع والتفاوض وقبلها سبر مواطن الجمال ومقاصد الشريعة؛ ممّا يجعلنا نتساءل: كيف يكون الفقه الإسلامي بمعناه اللغوي الفهم والإدراك وطالب الشريعة لا يعلم التفكير أو حتى مبادئه؟

كيف يُقبل أن يكون هناك طالب علم شرعي لا يعرف عن العالم حوله شيئا ويظن أن الناس ما زالوا يؤمنون بما كتبه صاحب الملل والنحل أو لا يعرف عن التاريخ إلا ما كتبه ابن كثير ويدور حول كتاب تفسير فتح القدير ولا يعرف شيئا عن أنواع التفسير المستحدثة، وإذا ذكر أمامه العقلانيون لم يدر ما يقصد بهم أو القرآنيون لأنه ما زال يعيش هو وأساتذته بين دفات الكتب القديمة.

إن معركة إنقاذ الإسلام تبدأ بالرجال الذين يتصدرون المشهد الذي يمثله، فلن ينتصر هذا الدين بدون أن يتم تنقية رجاله وإعادة شرف الدين لأهله وإلا علينا أن نستسلم ونجعل ما قاله ابن تيمية يتحقق في زماننا ونضيع على أجيالنا القادمة شرف الانتماء إلى هذا الدين العظيم.