لا بد أن أعترف أنني كنت وما زلت أعاني من مشكلة مع كل من يحتد في الحديث أو يرفع صوته، فلا أستطيع أن أستمر في الحديث معه إلا إذا خفض نبرة صوته، وكنت سابقا لا أدرك أنها مشكلة، ناهيك عن معرفة سبب هذه المشكلة أو العواطف السلبية التي تنتابني في كل مرة ترتفع فيها نبرة الصوت، ولكن قبل عام تقريبا حدث لي ما جعلني أتنبه لهذه المشاعر، فقد أتاني مريض رافعا صوته لموضوع بسيط لا يحتاج لمثل هذا الصوت المرتفع والنبرة الحادة، ولكن بعد دقائق من فشلي في إقناعه أن يخفض صوته لكي أستمر في الحوار معه، وبعد أن ارتفعت نبرة صوتي أنا كذلك، تنبهت إلى أن إحدى أذنيه فيها سماعة أذن طبية، لقد كان يعاني من ضعف حاد في السمع وهو لا يدرك كم هو مرتفع صوته.
ولكن ما سبب المشاعر السلبية المبالغ فيها التي تنتابني في كل مرة ترتفع فيها نبرة صوت مخاطبي؟ ولماذا أحس بعدها بعدم القدرة على التركيز وأكون منهك القوى وقد سلبت مني طاقتي ونشاطي؟ بل ويظهر على وجهي كل ذلك، فأضطر إلى أن أختبئ عن الأعين لأستعيد نشاطي وحيويتي وطاقتي المهدرة.
كم من المرات واجهت موقفا أثار فيك مشاعر وعواطف سلبية؟ وكم من المرات كان رد فعلك لهذه المواقف الخوف أو القلق أو الحزن أو الغضب أو البغض أو الكراهية؟ ثم بعد فترة من الزمن قد تكون قصيرة، عندما تعود بذاكرتك للوراء تعجب لردود فعلك من كلام وتصرفات، فالموقف لم يشكل لك خطرا حقيقيا، وقد كان أبسط وأتفه من أن يثير فيك كل هذه المشاعر السلبية.. ما الذي حدث لك؟
إنني أعترف أنني كنت أجهل في السابق معنى هذه المشاعر والعواطف، إلى أن بدأت رحلتي مع الذات، فأدركت أنه تفاعل الأفكار في عقل الإنسان مع جسده لتنتج المشاعر والعواطف السلبية، وبإمعان الفحص والنظر في معظم هذه الأفكار نجدها أفكارا مبنية على افتراضيات لا واعية، كثير منها مزروعة منذ الصغر مثل (لا أحد يحبني)، (لا أحد يحترمني)، (أحتاج أن أحارب لآخذ حقي)، وبذلك فإن المواقف التي نمر بها تتم قراءتها من قبل العقل بناء على هذه الافتراضيات اللاواعية، ويتم تصنيفها فورا على أنها سيئة، مما يؤدي إلى إفراز هرمونات التوتر في الجسم مثل هرمون الأدرينالين وهرمون الكورتيزول وهما اللذان إذا استمرا لفترات طويلة فإنهما يؤديان إلى أمراض جسيمة بالجسم، مثل ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والتوتر والاكتئاب وصداع ومشاكل في الجهاز الهضمي وجلطات في الدماغ.
بل بينت إحدى الدراسات أن خمس دقائق فقط من مشاعر الغضب السلبية يمكن أن تعطل الجهاز المناعي في جسم الإنسان لمدة تزيد عن 6 ساعات، وإضعاف المناعة يعني أن الإنسان أصبح أكثر عرضة للإصابة بالأمراض والالتهابات بشكل عام، بل والأمراض السرطانية.
عجبت لما ذكره الناشط البيئي والباحث وصاحب البرنامج الكندي الشهير (طبيعة الأشياء) البروفيسور دايفيد سوزوكي في كتابه (التوازن المقدس) (The Sacred Balance) من أن الذرات المكثفة التي تخرج من زفير إنسان غاضب يعبر عن غضبه أو كرهه أو حقده أو حسده تحتوي على مواد سامة، لو أنها جمعت لمدة ساعة واحدة فقط، فإن هذه المواد السامة كافية لقتل 80 من حيوانات التجارب المعملية، فهل يمكن أن نتصور الضرر الذي نجلبه على أنفسنا عندما ندع المشاعر والعواطف السلبية تسري في أجسادنا وتتحكم في تصرفاتنا وأقوالنا وأفعالنا وحياتنا؟
أدركت حقا كم هي العاطفة السلبية سامة للجسد وتخل بتوازنه وتناغمه. البغض والكراهية، القلق والخوف، الحزن والأسى، الحقد والغضب، الغيرة والحسد.. كلها مشاعر سلبية تكبح تدفق الطاقة الإيجابية في الجسد وتؤدي إلى أمراض جسدية وعقلية ونفسية على المدى البعيد.
اكتشفت أن المشاعر والعواطف هي في حقيقتها (طاقة).. نعم طاقة يمكن أن تخزن في ذاكرة كل خلية من خلايا الجسد البشري وتؤدي إلى الآلام والأمراض والأسقام، بل إن هذه المشاعر والطاقة الداخلية وذبذباتها تصدر هالة تحيط بالإنسان على شكل إطار بيضاوي وتسمى (الهالة النورانية) أو Aura ويمكن تصويرها بجهاز Kirlian ويمكن تفسير ألوانها وأشكالها بالحالة النفسية والجسدية للجسم ولكل عاطفة انعكاساتها في ألوان هذه الهالة.
وجدت نفسي أنجذب أكثر وأكثر إلى هذه القضية فسحبتني للأعماق، قرأت وبحثت أكثر.. أدركت أن ذكاء الجسد الإنساني جزء لا ينفصل عن الذكاء الكوني، لكن ما هو هذا الذكاء الكوني؟ إنه الذكاء الذي يتحكم بكل شيء حولنا وليس لنا فيه خيار، هو الذي ينظم الكون من حولنا من الذرة إلى المجرة، فوظائف الجسم المعقدة تعمل بهذا الذكاء الذي أودعه الله جسدي، وأنا لا أتحكم فيها كالدورة الدموية وعمل القلب والرئتين والجهاز الهضمي، ومما أودع الله هذا الجسد قدرته على ردود فعل غريزية سريعة لضمان الحماية للإنسان، وهي ردود الجسم المباشرة على وضع خارجي معين، فعندما يحس الدماغ بالخطر، فإن منطقة في الدماغ تسمى المهاد (Thalamus) تفعل نظام مركز البقاء الانفعالي (Emotional Survival Center) الذي يتحكم في ردود الأفعال لتحقيق استجابة سريعة للخطر الوشيك الوقوع، وهذا هو النظام الذي يفسر اندفاعنا للقفز وراء طفل سقط في ماء بارد لإنقاذه، أو نحو مبنى يحترق لإنقاذ شخص يستغيث، فتفرز هرمونات التوتر التي تعطي الطاقة اللازمة للاندفاع والقتال أو الهروب والإدبار.
وهذا منطقي لأن الجسد في هذه المواقف يحتاج إلى ردود فعل سريعة أكثر من تفكير استراتيجي متأنٍ ومنطقي، وهو ما يسمى باختطاف العقل (Brain Hijack). هنا تذكرت كتاب دانيال جولمن (الذكاء العاطفي)، حقا إنه نظام رد فعل فسيولوجي رائع إذا فُعِّل أثناء الخطر الحقيقي، فكثيرا ما ينقذ حياة الإنسان.
ولكن هذا النظام هو نفسه الذي يفعل أثناء الإحساس بالمشاعر والعواطف السلبية، فرغم أن الجسد بالغ الذكاء، إلا أنه لا يستطيع التمييز بين خطر حقيقي وشيك الحدوث وبين الأفكار التي ترسم في الدماغ صورة الخطر وإن لم يكن موجودا إلا في تصور ومخيلة وافتراض عقل الإنسان، فتفرز هرمونات التوتر تماما كأننا نواجه خطرا حقيقيا فتتسارع دقات القلب ويرتفع الضغط ويتسارع التنفس وتتقلص عضلات الجسم، حتى وإن كان الواحد منا متلحفا بغطائه ينعم بدفء فراشه ليلا. فلا فرق بينهما على المستوى الفسيولوجي وإن كان أحدهما على أرض معركة فعلية يصارع الموت، والآخر على فراشه يصارع (الأنا) التي فيه.
وفي مقال قادم بإذن الله سنحاول معرفة من الذي يقف وراء المشاعر والعواطف السلبية السامة المدمرة لصحة الإنسان جسدا وعقلا وروحا؟