كما هو معلوم بأن الفوضى الخلاقة هي مصطلح سياسي أميركي جديد يرمي إلى إيجاد شرق أوسط جديد، عن طريق تفكيك الدول العربية القائمة التي رسمت حدودها حسب مقاس اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916 بين بريطانيا العظمى وفرنسا، لتخدم مصالح كل منهما. وبهدف إعادة تقسيم ما قسمته اتفاقية سايكس بيكو إلى كيانات أصغر منها، تتناسب وتخدم المصالح الأميركية الحالية بشكل عام، ومصلحة الكيان الصهيوني، إسرائيل، بشك خاص. وهذا كما صرح به مخططو إقامة الشرق الأوسط الجديد، سيصب أخيرا في صالح الغرب بشكل عام، لما سيحدثه من تفكيك الكيانات العربية الكبيرة لكيانات أصغر منها، يجعلها غير قابلة لحمل أخطار وشرور العرب والمسلمين إلى إسرائيل وأوروبا.
في عام 1983 طرح المؤرخ والمستشرق البريطاني برنارد هنري لويس، اليهودي البريطاني، ذو النزعة الصهيونية والمختص في الدراسات الشرقية والأفريقية، والذي انتقل إلى الولايات المتحدة وحل بها، وثيقة على الكونجرس الأميركي تتعلق باقتراح إعادة تقسيم الشرق الأوسط، وإحلال شرق أوسط جديد مكانه. والتي وافق عليها وأقرها الكونجرس، حيث اعتبروا بأن اتفاقية سايكس بيكو راعت المصالح البريطانية والفرنسية، على حساب المصالح الأميركية. وحسب رأي صحيفة وول ستريت الأميركية، فإن مشروع برنارد لويس يعتبر أخطر مخطط طرح في القرن العشرين، لتفتيت الشرق الأوسط لأكثر من ثلاثين دويلة إثنية ومذهبية.
ويعتبر لويس منظر التدخلات الأميركية في الشرق الأوسط في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الابن، وحروبه المزعومة لمحاربة الإرهاب، وقد أعطي مخطط لويس الرامي لتفتيت الشرق الأوسط وتقطيع أوصاله، عن طريق إشعال النعرات العرقية والدينية والمذهبية الموجودة في كل دولة عربية وتأجيجها، من أجل إشعال حروب أهلية فيها تنتهي بالتقسيم، بمقابل ظهور فيدرالية تقودها إسرائيل باعتبارها الدولة المركزية الوحيدة التي ستحكم المنطقة سعيا منها إلى تحقيق حلم "إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات" بعدما تضعف دول الجوار وتتفكك وتتحول إلى دويلات هزيلة. وقد نشر مخطط برنارد لويس الخطير لأول مرة في مجلة وزارة الدفاع الأميركية، مرفقا بخرائط التقسيم لكل دولة على حسب إثنياتها وأديانها ومذاهبها. وتوالت العديد من الدوريات والمجلات الغربية بنشر خرائط الشرق الأوسط الجديد، حيث نشر كل من صحيفة نيويورك تايمز ومجلة تايم الأميركيتين توضيحا لهذه المخططات التي شملت تقسيم كل من المملكة العربية السعودية والعراق وسورية وليبيا إلى 14 دولة.
وبحكم قرب لويس من الإدارة الأميركية السابقة "بوش الابن"، فإن المحللين السياسيين المستشرفين لعلاقات الولايات المتحدة المستقبلية بالعالم العربي يجزمون أن وثيقة لويس للشرق الأوسط الجديد قد أخذت تظهر جليا على علاقات أميركا بالمنطقة، مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وقد لوحت بذلك علنا وزيرة الخارجية الأميركية في الإدارة الجمهورية السابقة كونداليزا رايس أثناء الهجوم الإسرائيلي الغاشم والمدمر على لبنان في عام 2006، حين طلبت من الشعب اللبناني تحمل النيران الصهيونية التي تحرق أجسادهم وممتلكاتهم العامة والخاصة، مبشرة إياهم بولادة الشرق الأوسط الجديد. وإن ما يمرون به لا يعدو كونه مخاضا مؤلما لهم وصعبا عليهم، ولكن سيولد من رحمه مشروع أميركي إسرائيلي جديد للمنطقة.
حيث بدأت الخطوة الأولى لتطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد قبل ذلك بثلاث سنوات، عندما غزت الجيوش الأميركية العراق عام 2003، وأسقطت نظامه وفككت مؤسساته الوطنية القائمة، وعليه أشاعت الفوضى فيه وأججت الحروب الطائفية وخرجت منه، لتتركه نهبا للفوضى الخلاقة التي لم تخلق غير الدمار والأسى والفجائع والتقسيم والحروب الطائفية وداعش وأخواتها. وما تصريحات نائب الرئيس الأميركي الحالي، جو بايدن وقيادات في الكونجرس، المطالبة بتقسيم العراق إلى ثلاث دول شيعية وسنية وكردية إلا تطبيق لمشروع التمزيق الفظيع. واتضح ذلك أكثر بتعامل الإدارة الأميركية الحالية مع ما يسمى بثورات الربيع العربي، حيث اليمن وليبيا وسورية في طريقها للتقسيم، إن تركت مرتعا لمخطط برنارد لويس الصهيوني الجهنمي والتنظيمات التكفيرية.
لماذا فكر وخطط برنارد لويس لمشروعه الشرق الأوسط الجديد؟ والذي تبناه الكونجرس الأميركي وأصبح مشروعا أميركيا، سخرت إمكاناتها وطاقاتها لفرضه كواقع على الأرض؟ الجواب يذكره لويس في مقابلة له وهو كما ذكر "إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضرهم. وإذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات وتقوض المجتمعات. ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتقسيمهم من جديد". ويضيف، "ولذلك فإنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية إلى وحدات عشائرية وطائفية. ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود أفعالهم. ويجب أن يكون شعار أميركا التالي: (إما أن نضعهم تحت سيادتنا أو ندعهم ليدمروا حضارتنا). ولا مانع عند إعادة احتلالهم أن تكون مهمتنا المعلنة "هي تدريب شعوب المنطقة على الحياة الديموقراطية". وهذه بالتحديد، نفس الحجة التي بموجبها تم وضع أيادي بريطانيا العظمى وفرنسا على المنطقة وشعوبها ومقدراتها، بعد الحرب العالمية الأولى (الانتداب)، بمباركة عصبة الأمم، المنظمة الدولية السابقة لهيئة الأمم المتحدة، إنشاء دول حديثة وتدريب الناس على إدارتها.
وكيف توصل لويس إلى هذه الأفكار المعادية للعرب والمسلمين؟ وهو المختص بدراسة تاريخهم وحضارتهم؟ لقد اعتمد لويس مخططه هذا على كتب ودراسات مطولة ألفها عن بنى نظم الحكم في العالم العربي. والتي توصل فيها إلى أن الطبيعة والتركيبة القبلية والعشائرية للدول العربية على مر السنين أوصلته لقناعة بأنه من المستحيل على العرب تكوين دولة بالمعنى الحديث للدولة. وذلك لكونهم مؤسسين على مجتمع محكوم بالنظام القبلي والطائفي. ويرى أن على أميركا استثمار هذه التناقضات العرقية والعصبية القبلية والطائفية لمصالحها الاستراتيجية بالمنطقة، كما أكد على حسن استعمال سياسة فرق تسد، كجزء من بنى التفتيت.
هذا عن مشروع برنارد لويس، الشرق الأوسط الجديد، الذي تبنته الولايات المتحدة كأساس لأجندة سياستها الخارجية تجاه العالم العربي الذي لن يجد النور إلا من خلال الفوضى الخلاقة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تطابق مشروع خلق الفوضى الخلاقة، المشروع الأميركي المؤدي إلى تقسيم وتفتيت المنطقة وإشاعة الفوضى فيها، ومشروع تنظيم القاعدة الإرهابي، إدارة التوحش، الذي يعتمد كذلك على إشاعة الفوضى وإدارة هذه الفوضى عن طريق التوحش؟ والذي نشر حوالي عام 2009 في الكتاب الصادر عن القاعدة بعنوان "إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة"، لمؤلفه أبو بكر ناجي. والذي يستشرف مؤلفه حدوث فوضى في العالم العربي، ويحث القاعدة على الاستعداد لإدارتها والتحكم بها عن طريق التوحش.
هل كان هنالك تنسيق بين القاعدة وبين أميركا؟ لأن تستعد القاعدة للفوضى القادمة التي سيخلقها مشروعها الجديد في المنطقة، لتزيد من تمزيق ما سيتم تمزيقه؟ أم هي قراءة ذكية من قيادات القاعدة لما سيحدث؟ واستعدت له. وغفلت عنه الأنظمة العربية التي مزقت وتلك التي تمزق الآن وتلك التي ترتعد فرائصها خوفا من التمزيق لاحقا؟ سؤال سيجيب عنه القادم من معلومات، كما أجابت المعلومات التي نشرت عن اتفاقية سايكس بيكو.