أطلّ وزير الاقتصاد والتخطيط الدكتور محمد الجاسر على الرأي العام السعودي بتصريح شغل الصحافة وبعض وسائل الإعلام الاجتماعي خلال الأيام الماضية، وهو يتعلق بالبطالة في المملكة، إذ قال فيه إن البطالة موجودة في كل العصور وأنها كانت موجودة أيضا في زمن النبوة، وكانت هذه المقدمة المختصرة ليصل بنا الوزير الجاسر إلى النتيجة التي يريدها، أو يريد الرأي العام أن يتقبلها، وهي أن نسبة البطالة في المجتمع السعودي 6? فقط!
هذا التصريح جعل اسم الوزير متداولا في موقع التواصل الاجتماعي الأشهر (تويتر) تتقاذفه آلاف التغريدات. وربما أن انتقاد تصريح الوزير الجاسر لا يعني عدم القناعة بتمكنه من قيادة واحدة من أهم الوزارات في السعودية وهي وزارة الاقتصاد والتخطيط، ولكن للحق لم يوفق الرجل في تصريحه ذاك، وإن كان ما قاله ربما محتمل الوجود تاريخيا، لكن السقطة تكمن في مضمون المقارنة بين عصور سابقة وعصرنا الحالي، واستدعاء التاريخ بهذه الطريقة وإسقاط الواقع التاريخي على زمن مختلف تماما بمتغيراته البشرية والاقتصادية والثقافية والحضارية.
هذا التصريح -الذي يشعر الرأي العام بأن مؤسف- ربما كان محاولة لفرض أمر واقع. فوجود البطالة في العصور السابقة يحتاج إلى تحديد ما يعنيه مفهوم "البطالة" المقصودة أولاً، سواء في العصور السابقة أو العصر الحالي، على اعتبار أن قلة الموارد والمجاعات أمران معروفان تاريخياً، غير أن زمن النبوة والعصور السابقة له كانت فيها أعداد السكان أقل بكثير من أعداد السكان في العصر الحالي، إذ لم يتجاوز التمدد الديموجرافي للدولة النبوية حينها أرجاء محددة في منطقة الحجاز، فضلاً عن أنه في ذلك الوقت لم يوجد بترول، ولا موارد اقتصادية متعددة، كما لم يوجد وزير للاقتصاد ولا وزارة للتخطيط!
ربما أراد الوزير الجاسر من مقدمة تصريحه حول "البطالة في زمن النبوة" إقناع الرأي العام بمعقولية الرقم الذي طرحه حول البطالة في المملكة-وهو ستة بالمئة- كنسبة مقبولة للبطالة، غير أن هذه النسبة تختلف عن النسبة التي طرحتها وزارة العمل في وقت سابق، التي تبلغ أكثر من الضعف، ما يدل على أن الإحصاءين الحكوميين لأهم وزارتين ترتبطان بالتنمية والمجتمع مختلفان، على الرغم من أن أفراد المجتمع يميلون في الاعتقاد -بحسب ما يشاهدونه في الواقع- إلى أن نسبة البطالة أعلى من ذلك بكثير.
وعلى كل حال، كان يفترض أن يبدأ بالأرقام، المجتمع تهمه الأرقام والإحصاءات والدراسات الميدانية والبيانات أكثر من التنظير، ولذلك كان إقحام الوزير للتاريخ في البطالة أمرا مثيرا للاستغراب، على الرغم من أن القصد منه لفت نظر المجتمع إلى تقبّل الوضع الحالي، فمضمون الرسالة الإعلامية التي أراد الدكتور الجاسر إيصالها من خلال تصريحه المشار إليه: تقبلوا الأمر الواقع للبطالة فليس بالإمكان أفضل مما كان!
نحن اليوم بحاجة إلى الشفافية من قبل الوزارات، فمستوى الشفافية لدينا منخفض بسبب لجوء بعض الوزارات والوزراء أيضا إلى التعتيم الإعلامي على الحقائق التي تنطلق من الأرقام والإحصاءات، وهذا أمر مضر بواقع التنمية من جهة، ومضر بمنطقية التخطيط للمستقبل التنموي من جهة أخرى، فليس وعي المواطن السعودي ثابتا على ما كان عليه في عصور ماضية، وإن كان ما زال محافظا ومتدينا إلا أن تقبل ربط التاريخ الماضي بالواقع الاجتماعي ليس واردا في كل حال، حيث إن مصادر المعرفة، وطريقة التفكير، وصدقية المقارنات، أصبحت في متناول اليد لدى كل أفراد المجتمع، فالحواجز بين الدول والمجتمعات أصبحت غير موجودة بفضل تقنيات الإعلام والاتصال، ولهذا أتمنى من الوزير الجاسر الاعتذار وتوضيح ما يقصده وأن يقدم للرأي العام السعودي أرقاما وإحصاءات أكثر دقة ومعقولية.