المواطنة مفهوم لم يتجذر في أفئدة الناس وعقولهم بالشكل الكافي، فما زال البعض يظن المواطنة مِنَّه سياسية، ليقول بكل فجاجة: "احمد ربك أنك سعودي"! متناسيا أن السعودية بيعة بين قيادة حكيمة وشعب وفِيّ امتدت قرابة قرن من الزمان على أرض سيبذل الشعب دمه دفاعا عنها في ظل قيادته التي صدقته في البيعة وصدقها في الولاء، فهل لدلالات المِنَّة معنى؟!

يأتي آخر فيقول: أريد من مثقفي الطائفة الشيعية أن يثبتوا ولاءهم للوطن في كل حادثة يقترفها شيعي؟ وفي هذا خلط خبيث يفتت الوطنية بالوطنية نفسها، ويتعرى خبث الأسلوب لمن لا يرى الخبث هنا في قول أحدهم في المقابل: يجب على مثقفي المنطقة الفلانية أن يثبتوا ولاءهم للوطن في كل حادثة يقترفها داعشي أو قاعدي يخرج من منطقتهم؟! والمضحك أن يكون المطالب بإثبات ولاء المثقفين الشيعة راسب بامتياز في سؤال الولاء لوطنه في موقفه من سقوط مرسي! وعندها لن تنتهي جموع الراسبين، فهل هذا مطلب وطني في كل نازلة وعلى كل طائفة أو قبيلة أو فئة؟!

هنا يتضح التيه في عدم التفريق بين الولاء للوطن حسب مفهوم الدولة الحديثة، والولاء للقبيلة ومفاهيمها على شكل وطن، فالقبيلة تضيق بأي خلاف، وتنفر منه، لأنها قائمة على بدائية وسطحية لا تحتمل التنوع، بينما الدولة الحديثة تحتمل التنوع بل والاختلاف معها حتى في التوجهات السياسية، وذلك في حدود لا تؤثر على السلم والأمن الأهلي، ولا تشكك في القرار السياسي أو تطعن فيه بشكل يفقدها شرعيتها، ويعرف معنى ذلك ودهاليزه كل من يمارس النشاط السياسي قولا في حده الأدنى عبر الكتابة الصحفية فقط، أو فعلا عبر صناعة الجماهير والأتباع، فحتى وجود معارضة سياسية راشدة -تتجنب تعمد الإحراج الدولي لحكومتها- يعدّ ظاهرة حميدة يفاخر بها أي بلد متقدم يريد أن يزيد تقديره الاعتباري أمام دول العالم.

قتل وطنية المواطن من خلال الوطنية نفسها خطير جدا، والعراك المجتمعي سيظهر على السطح كمؤشرات تحذيرية. فباستقراء التوجهات السياسية لكثير من المثقفين المعتبرين نجد لهم آراء قد تخالف السائد المعترف به سياسيا في السعودية، ولا يوجد شخص يملك رأيا مستقلا، من أي تيار إسلامي أو غير إسلامي وإلا يمكن إعداد قائمة أسئلة تجعله يتصادم مع أحد التوجهات السياسية لبلده، وسيجيب عنها بدبلوماسية لا تخفى على كل ذي لب، فلماذا المزايدة في تبادل الاتهامات؟! فقد عرف المجربون أن من يُذِيق خصومه المرارة باستعداء الجماهير، سيذيقه خصومه المر مضاعفا عبر استعداء السلطة، فما الجدوى عند ذوي الألباب؟

هناك مطالب وطنية واحدة يتفق عليها كل أبناء الوطن، في سبيل مستويات أرقى للمواطن في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية قتلتها الوثائق الدولية تفصيلا وبيانا لأي دولة تبحث عن تقدير دولي يجعل لكلماتها معنى في المحافل الدولية.

المطالب الوطنية المتعارف عليها دوليا بل وإنسانيا، عندما يتم تحريفها إلى مصالح فئوية خاصة تصادر حق الآخر في الوجود تحت مبررات إثنية أو طائفية، فإن هذا التحريف يطعن في الوطنية تحت أي شعار كان، والمضحك المبكي أن تجد أن المذهب نفسه حتى في ثوابته المزعومة له قولان في المسألة! فما الذي بقي؟ بقي النظر إلى الوطن بالعين التي نظر بها عبقري الجزيرة العربية مؤسس هذه الوحدة الوطنية من القطيف إلى جدة ومن حائل إلى نجران، ولمن لا يدرك معنى العبقرية هنا، فعليه النظر بعين الخيال الأحمق لرجل يكفر الشيعة والصوفية والأشعرية، ليختصر التكفير في كل مخالف له، فعقيدته الأصفى والأنقى وما عداها فشرك وكفر، ثم يحول تكفيره إلى سلطة تنفيذية تمنع كفار فتواه ومشركيها من الحج إلى مكة، فمن بقي؟!

وعندها سندرك المسافة بين داعش وخليفتها الأحمق، وبين عبدالعزيز بن عبدالرحمن الذي تجاوز ضيق المذاهب والطوائف فأخذ بيد شعبه إلى سماحة الإسلام، ليكون كل ملك بعده من أبنائه ابنا مخلصا للإسلام، لا ابنا لمذهب خاص أو طائفة خاصة، فكان أن حملوا عن حق واقتدار لقب "خادم الحرمين الشريفين"، وتجاوزوا كلالة القبيلة إلى مجد العروبة وفضاءها الرحب لكل شعبهم الناطق بها، فكانت المملكة العربية السعودية.

الوطنية بالمعنى المتسامي على الفئوية بأنواعها يعطي الدولة مرونة في التعاطي الخارجي، دون القلق من ردة فعل داخلية لضيقي الأفق دينيا ودنيويا، فإيران عندما تجر دول المنطقة إلى صراع مذهبي، يجب عليها أن تكون الخاسرة، ولو بعد حين، والمنافس الذي يمتلك اللياقة الدينية والبراغماتية العلمانية هو الرابح الأكبر، وهذا ما تظنه تركيا في نفسها عبر عمامة العثمانيين الدينية وشوارب أتاتورك العلمانية، بينما السعودية تملك روحين "العروبة والدين"، فالدماء العربية التي تجري في شرايين الشيعة العراقيين كافية إن وجدت من يقدر عروبتها، والشواهد كثيرة من زيود اليمن حلفاء السعودية القدامى في الستينات، إلى قوائم الشهداء من الشيعة العرب والمسيحيين العرب الذين قاتلوا إيران من أجل وطنهم العراق في زمن مضى، ولو تم التعاطي مع العراق وفق هذا المنطق دون الانجرار إلى الوحل الطائفي لكانت الأمور أفضل، لكن ربما التشفي المبالغ فيه في تفتيت "البعث العراقي" من بعض دول المنطقة كلفها أكثر مما كانت تتوقع، وقد تكلفها خسارة "البعث الآخر" مثل ذلك، لنرى ما نخشاه من خرائط جديدة للمنطقة، بينما شرف الخصومة وذكاؤها، ألا تحب كل الحب، ولا تكره كل الكره، ولا ثابت في السياسة سوى قانون المصالح المتغيرة، فالعدو المبين بالأمس قد يصبح الولي الحميم اليوم، ويبقى المواطن بكل ألوانه الطائفية والعرقية في كل قطر عربي يهجس بحاله واضعا يده على خده متحسرا يرجو زمانا لعله "سيأتي يمحو الزمان المزيف".