العلاقة بين الإخوان المسلمين وبين الحكومات المصرية المتعاقبة منذ تأسيس الجماعة عام 1928 وإلى هذه اللحظة التاريخية اتسم بتقلبات كثيرة تراوح بين الشدة ومحاولة الاستئصال والسجون، وبين التهدئة والتسامح الجزئي، وبين الإغضاء عنها في فترات محدودة، وإن كانت مرحلة الشد هي المرحلة الأكثر في تاريخ الجماعة منذ لحظة التأسيس إلى هذه اللحظة.

وقد كانت أشد مرحلة مرت على العلاقة بين الإخوان والحكومات المصرية كانت في الحقبة الملكية التي تصاعدت حتى انتهى الأمر بمقتل مؤسس الحركة الشيخ حسن البنا، وتصاعد الخلاف بين الجماعة والملكية وكانت الضربات الموجهة إلى الجماعة ضربات قاضية، وفي العهد الناصري تصاعدت موجات الخلاف بين الجماعة والنظام المصري وشهدت تلك المرحلة موجة اعتقالات واسعة وإعدامات لشخصيات إخوانية كبيرة أمثال سيد قطب وعبدالقادر عودة ومحمد فرغلي ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب وهنداوي دوير وغيرهم، وكان الصراع في تلك الحقبة على أشده بين الفكرة القومية والرؤية الإسلامية مما صنع للإخوان مناخات حاضنة كما في دول كثيرة ومن ضمنها المملكة العربية السعودية، ثم انفرجت الأحوال بالنسبة للإخوان في عصر السادات، حتى أن مرشدها كان يصلي في المناسبات خلف السادات، وذلك لأن السادات رأى في الإخوان سبيلا إلى مواجهة التيار اليساري الاشتراكي الذي كان السادات يعاديه، فكانت فترة السادات فترة ذهبية بالنسبة للإخوان المسلمين.

أما في عصر الرئيس مبارك، فكانت العلاقة مشوبة بحذر كبير منذ بداية عهد الرئيس مبارك، وقد شهدت عدة منحنيات لكنها لم تكن المواجهة فيها مواجهة استئصالية وإنما كان فيها نوع تعويق للحراك السياسي للجماعة، وإتاحة الفرصة لمشاركات محدودة في الحياة السياسية ابتدأت منذ عام 1987 وحظيت بمكاسب محدودة، ثم شاركوا في انتخابات عام 2000 ميلادي وحصلوا على مقاعد قليلة جدا، وكانت ذروة نجاحاتهم في عام 2005 حين حصلوا على 88 مقعدا، مع ما شهد المرحلة من حالات خلاف وشد وجذب وخاصة فيما يتعلق بتحويل القيادات إلى المحاكمات العسكرية للحد من نفوذهم ونجاحهم السياسي، ولكنهم كانوا يواجهون ذلك بمراوحة سياسية هادئة دون تصعيد حتى كانت قياداتهم تثني على الرئيس مبارك وتراه وليا للأمر، بل لم تكن تخفي موافقتها على فكرة "التوريث" لابنه جمال.

إن المرحلة المفصلية والخطيرة في تاريخ الجماعة كله، والتي ربما أرجعتها عشرات السنين إلى الوراء كانت بعد أحداث الثورات العربية التي كانت مصر هي المحطة الثالثة فيها، والتي انتهت إلى اعتلاء الإخوان سدة الحكم في مصر، ولكنهم سرعان ما فقدوا حلمهم في الحكم بعد أحداث 30/ 6 وما تلا ذلك من أحداث لا تخفى على الجميع انتهت بأحداث رابعة العدوية، والقبض على بعض قيادات الجماعة، والمواجهات التي تلت ذلك وحالة المناكدة بين الجماعة وحكومة السيسي التي تولت قيادة السياسة المصرية، ولا تزال المشكلات قائمة بين الجماعة وبين الحكومة المصرية، حيث تصر الجماعة على رجوع الشرعية، بينما ترى الحكومة أن التغيير الذي حصل في مصر هو ثورة شعبية أطاحت بها كما أطاح من قبلهم بالرئيس حسني مبارك.

إن المقصد من هذا السرد التاريخي المختصر والمختزل جدا هدفه لفت النظر إلى أن الجماعة في تاريخها تمارس براجماتية سياسية، وأن عندها القابلية في المراوحة بين التصعيد والتهدئة، والمواجهة والتفاهمات، وأن الجماعة في كل مرحلة تخسر موقعها تعود من جديد إلى ترتيب أوضاعها من جديد، وتكمن في الأرض فترة، وربما تعود بقوة إلى الحالة "السرية" التي تتيح لها ترتيب أوضاعها السياسية والحزبية بالخفاء، وما تلبث أن تعود إلى الواجهة من جديد، وهذا أمر قد تكرر في كل مراحلها التاريخية، وهو أمر أدركته الحكومات التي تعاملت مع الجماعة عبر تاريخها الطويل، وها هي اليوم على أعتاب فصل جديد من الترتيبات التي تجعلها تعيد حساباتها ووضعها القائم، وخاصة أنها في تلك الأوقات التي تصاعدت فيها الخلافات مع الحكومة المصرية وخاصة في الزمن الناصري قد وجدت لها محضنا خارج مصر تمثل في عدد من الدول ومن ضمنها السعودية، إلا أن الفارق في هذه المرحلة أن العلاقات مع السعودية مضطربة، وترى أن دول الخليج - عدا قطر - في صف الحكومة المصرية التي يرونها حكومة انقلابية عسكرية، ولكنهم في نفس الوقت يدركون جيدا تبعات نصب العداء للسعودية والإمارات والبحرين والكويت إضافة إلى الحكومة المصرية، إذ لم يتبق لهم إلا تركيا وقطر تقف خلف الجماعة بل ولربما عبرت عنها في مواقف كثيرة، وهذا يجعل الجماعة أمام أزمة كبيرة، وفي مواجهة أكثر من دولة في وقت واحد، وخصوصا حين أدرجت في السعودية والإمارات ضمن الجماعات الإرهابية المحظورة.

والسياسة في حقيقتها هي "فن الممكن"، وليس في السياسة عدو دائم أو صديق دائم، إنما تخضع الخيارات إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد، وهذا يتقنه من ينظر إلى الأمور بنظرة ناضجة بعيدا عن الأحكام اليقنية والثابتة التي يقاتل من أجلها دون النظر إلى عواقب الأمور، وهذا يجعل الجماعة الآن أمام امتحان تاريخي، فإما الإصرار على التصعيد، وعدم القبول بالواقع الجديد، وضرب المحال في إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، أو التعقل والهدوء والنظر في المآلات بعيدا عن خطاب التهييج والدوغمائية المضرة التي تحشد الأتباع وتدغدغ مشاعرهم، ولكنها في النهاية لا تنتج حلا لمشكلة أو تحقق مصلحة لأحد، وللأسف فتاريخ الجماعة مليء بالمجازفات والمراهقات السياسية التي تفقدها كثيرا من مكاسبها، وفي نهاية المطاف تقف موقف الأضعف في التفاوض وتعود إلى نقطة الصفر بعد الكوارث والخسائر الفادحة.

نعم.. يمكن أن يشكل الموقف الأميركي من الجماعة - الذي ارتضى وصولها إلى سدة الحكم في مصر وغيرها من الإسلاميين في العالم الإسلامي، بل ودعهما ورتب معها أمورا كثيرة منذ عام 2005- قوة في الإصرار على موقفها، ووعدها ببعض الأماني صعبة التحقيق، ولكنها لا بد من أن تدرك أن الأميركان لا حليف لهم دائم، ومصلحتهم في كل الأحوال مقدمة على مصلحة حلفائهم، وخاصة أنهم أدركوا أنهم كانوا يراهنون على رهان خاسر، وأن الإخوان لم يكونوا على مستوى المرحلة لا من الجانب السياسي ولا الإداري، وأنهم يفلحون في المعارضة أكثر من نجاحهم في القيادة.

والمطالع والعارف في تاريخ الجماعة يدرك أنها تضغط وتناكد لتكسب مزيدا من القوة في التفاوض، ولا شك أنهم يعملون جاهدين الآن إلى محاولة التفاهمات مع كل الخصوم حتى يحظوا بتقليل الخسائر وسلامة القادة من الأحكام والعودة من جديد إلى الحياة السياسية.

إن الاعتراف بالهزيمة، وبسط الأيدي للمصالحات، وعدم المكابرة على الواقع، وعدم الانسياق وراء الوعود الكاذبة، وترك الاحتماء بالأضعف هو الذي سيحقق للإخوان عودة إلى الحياة من جديد.. وغير ذلك فالمستقبل قاتم، والأوضاع مؤلمة.