"يقولون" إن الهيئة العامة للاستثمار مسؤولة عن مشاكلنا التنموية الملحّة، وفي مقدمتها تفاقم البطالة بين المواطنين، وتدني سَعودة الوظائف، واستجلاب المزيد من العمالة الأجنبية متواضعة المؤهلات لسوق العمل المتخم بها أصلاً.
طبعاً هذا كلام لا يمت للمنطقية بصلة. وإذا كانت هيئة الاستثمار تلام بمقدار قيراط واحد، فالمنظومة الاقتصادية المحلية تلام أربعة وعشرين قيراطاً. على الأقل فهيئة الاستثمار لم تُوجد منظومتنا الاقتصادية.. فيما نعلم!
لنأخذ مشروع (قطار المشاعر) كمثال. الأخبار القادمة من مصر، تعضدها التصريحات المحلية أيضاً، تفيد بأن ألفاً من الأشقاء المصريين سيفدون للسعودية خلال موسم الحج كفنيين وأيد عاملة للقيام على تشغيل هذا القطار. بين يديكم هنا وكما ينص الخبر ألف وظيفة بالتمام والكمال. ألف عقد عمل وألف أسرة مصرية ستنتفع بألف تحويلة بنكية كل شهر. هنا ألف خبرة عملية ومهنية ليست واحدة منها سعودية. وهنا تنتصب علامات استفهام "السعودة" و"البطالة" و"الاقتصاد الوطني" بكل صراحة وعنفوان.
قصة قطار المشاعر ليست بدعاً من القصص. وهذه التكرارية في حد ذاتها هي لب الإشكالية. لأن مشاريعنا الاقتصادية الكبرى ما تزال تدار بعقلية "التجربة التنموية" و"الحل المؤقت". سبعون عاماً هو عمر بلادنا ومع ذلك فما زلنا في خضم "التجريب"، مع أننا وصلنا لحالة حرجة.. كما تؤكد أرقام البطالة والسعودة والتنمية البشرية إياها.
لنأخذ تفاصيل مشروع قطار المشاعر.. كمثال ليس إلا. المشروع نفذته شركة صينية. هي التي صنعت عربات القطار وهي التي ركّبت السكك الحديدية. كم فنياً سعودياً استفاد من "التجربة"؟ كم شركة سعودية شاركت أو اطّلعت على تفاصيلها؟ هل شملت التكلفة الاستثنائية لهذا المشروع الجبار تكوين نواة مؤسسة سعودية متخصصة تتولى أعمال التوسعة والتطوير مستقبلاً.. بما يتجاوز نطاق المشاعر؟ لأننا نسمع أن السعودية مقبلة على مراحل ربط حديدي مدهشة على مستوى المدن والمناطق والدول المجاورة أيضاً! هل نتطلع لازدهار صناعة تصنيع القطارات – ومشتقاتها - محلياً والحال كذلك؟ هل هناك رؤية قصيرة أو بعيدة المدى في أي اتجاه مماثل؟
حين قدم الصينيون وركّبوا لنا قطار المشاعر المقدسة، هل شمل عقد الصفقة الملياري أي بند يلزمهم بتدريب اليد العاملة السعودية؟ هل هناك معهد، أو مؤسسة ما، قامت على حس هذا المشروع وظيفتها تخريج الفنيين والمهندسين والعمال المتخصصين في تشغيل القطارات السعودية؟
الإجابة السريعة التي تفرض نفسها هنا هي: لا! بدليل أن ألف أخ مصري سيفدون للسعودية للعمل على تسيير قطارات المشروع. إنهم حتى ليسوا ألف صيني! إن العقد الملياري إياه لم يلزم الصينيين حتى بتوفير من يشغّل لنا قطاراتنا، ولا سنوات دراسة وترسية وتنفيذ المشروع كانت كافية لتأهيل ألف مواطن سعودي للقيام بهذه المهمة! فأين هو الخلل في هذه الصورة كلها؟
هناك أكثر من تصور. إما أن منظومتنا الاقتصادية غير معنية بإعطاء الأولوية للمواطنين.. أي أنها منظومة قائمة بالكليّة على مبدأ الاقتصاد الحر القائم على تحقيق أعلى ربح عبر أقل تكلفة، بدون الالتفات لأي أجندة وطنية. وهذا موقف مفهوم نظرياً.. غير أنه يضع المواطن في زاوية حرجة جداً!
وإما أن المواطن السعودي مغرور جداً ومتكبر جداً ولا يعجبه أن يعمل سائق قطار.. بل يفضل أن ينتظر في بيته حتى يصدر مرسوم بتعيينه رئيساً لهيئة تطوير مكة والمدينة على الأقل!
وإما أن هناك خطة سرية طموحة تهدف لخلق وظيفة لكل مواطن ومواطنة لكنها تنتظر الوقت المناسب لتظهر لولا إثارة الكتاب الصحفيين للقلاقل.. وهؤلاء غالباً يهرفون بما لا يعرفون.
وإما أن للهيئة العامة للاستثمار ضلعاً في قصة قطار الحرمين هذا! وهيئة الاستثمار مسؤولة عن كل مشاكل البلد الاقتصادية كما يقال، وكما سيفتيك غير كاتب.. بما فيها ارتفاع أسعار الحديد والبيبسي، وأزمة الأراضي والعقار، ومشاكل البطالة كلها، وبالذات عدم توفر ألف مواطن سعودي يقبلون العمل كسائقين ومشغلين لمشروع قطار المشاعر الواعد.