كتبتُ الأسبوعين الماضيين عن نيويورك وكيف تعاملت مع الكساد الاقتصادي الذي ما زال يضرب أطنابه على الولايات المتحدة. ولكن الوسط الأمريكي يعيدك بالفعل إلى جو تلك الأفلام القديمة عن فترة الكساد العظيم في أمريكا في القرن الماضي.

وأكتب هذا الأسبوع من مدينة ديترويت في ولاية ميشيجان، في الوسط الأمريكي. وتُعتبر هذه الولاية أكثر ولايات أمريكا تأثراً بالأزمة المالية العالمية، بسبب اعتمادها على صناعة السيارات التي تأثرت أكثر من سواها.

ووفقاً لنظريات الاقتصاد فإن السلع المعمرة، مثل السيارات، هي من أكثر السلع تأثراً بالأزمات الاقتصادية. فحالما تبدأ نذر الكساد الاقتصادي يتوقف عدد كبير من المستهلكين عن شرائها، تحسباً للظروف، خاصة أن شراء السيارة في غالب الأحيان أمر غير مستعجل، ويستمر الكساد في سوق السيارات إلى أن يتأكد المستهلك من أن الظروف الاقتصادية قد تحسنت بشكل نهائي.

وتُسمّى مدينة ديترويت بـ "مدينة السيارات" Motor City، فهي مقر الشركات الأمريكية الكبرى لصناعة السيارات: جنرال موتورز، فورد، كرايسلر. وقد تأثرت هذه الشركات الثلاث بالأزمة بدرجات متفاوتة، لكن جنرال موتورز كانت أكثرها تأثرا.

وكانت شركة جنرال موتورز قد أعلنت إفلاسها في شهر مارس 2009 وطلبت من القضاء حمايتها من الدائنين فيما تحاول تدبر أمورها، وقد وافقت المحكمة حينها على توفير حماية مؤقتة لها من دائنيها، وإعطائها الفرصة لتصحيح أخطائها وإعادة هيكلتها بعيداً عن تهديد الدائنين بإغلاقها نهائياً وبيع أصولها لسداد تلك الديون. وقد تدخلت الحكومة بسرعة وقتها وأممت الشركة، وأصبحت المالك الرئيس لها، حيث تملك 61% من أسهم الشركة، ووضعت خطة تهدف إلى إعطائها فرصة للعودة إلى الربحية وملكية القطاع الخاص. وتم تعيين مجلس إدارة جديد يعكس الملكية الجديدة للشركة، اتخذ عدداً من القرارات لتحسين كفاءة عملياتها، ومن تلك القرارات خفض حجم العمالة بشكل كبير، وتخفيض عدد الماركات التي تنتجها الشركة بحيث تقتصر على أكثرها ربحية وكفاءة.

وبالفعل استطاعت الإدارة الجديدة لجنرال موتورز تحسين أدائها، وتمكنت خلال ثلاثة أشهر تقريبا من إعادة جميع القروض التي اقترضتها من الحكومة الاتحادية الأمريكية، وتنوي الشركة الآن طرح جزء من أسهمها للاكتتاب العام قبل نهاية هذا العام.

ومع التحسن الملحوظ في ظروف شركات صناعة السيارات، إلا أن تسريح عدد كبير من العاملين فيها ما زال يلقي بظلاله على جميع أنحاء ولاية ميشيجان. وبلغت نسبة البطالة في مدينة ديترويت مثلاً 29% وهي نسبة لم تعرفها أمريكا منذ أيام الكساد العظيم في الثلاثينيات من القرن الماضي. وترى تأثير ذلك في كل مكان من الولاية، في زيادة عدد الفقراء وأولئك الذين يعتمدون على تعويضات البطالة ومدفوعات الضمان الاجتماعي.

وقد دفعت التقلبات الكبيرة في وضع ولاية ميشيجان الاقتصادي الكثيرين من المسؤولين فيها إلى التفكير في حلول تقيها مستقبلا خطورة هذه التقلبات، فهذه الولاية يرتفع أداؤها الاقتصادي بشكل كبير في فترات الرخاء، مما يجعلها تجتذب الكثيرين من الولايات الأخرى الذين يهاجرون إليها راغبين في الاستفادة من ذلك الرخاء، ويزداد عدد سكانها، ولكنها حالما تبدأ نُذُر الكساد في أي مكان من أمريكا، يبدأ اقتصادها في الانحدار. ويصبح المهاجرون الجدد، وبعض القدماء، أول ضحايا هذا الكساد، عاطلين عن العمل وعالة على نظام الضمان الاجتماعي.

وخلال زيارتي لمنطقة ديترويت، ومدينة بورت هيورون Port Huronعلى وجه التحديد، تحدثت مع عدد من المسؤولين في حكومة المنطقة وفي الحكومة الاتحادية الذين يفكرون جدياً في استحداث أنشطة اقتصادية جديدة تخالف الدورة الاقتصادية، أو تعمل بطريقة عكسية لها Counter-cyclical activities ووضعوا دراسة شاملة لتحقيق ذلك، ومن حسن حظ هذه الخطط أن الحكومة الفدرالية قد خصصت جزءا ًكبيراً من خطة التحفيز التي تبنتها الحكومة لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي لولاية ميشيجان، وترى حيثما ذهبت هذه المشاريع التي تحاول منع انهيار اقتصاد الولاية كلياً.

وتعتمد الخطة التي هي قيد الدراسة حالياً على فكرة أن هناك كثيراً من الأنشطة الاقتصادية التي لا تتأثر كثيراً بفترات الكساد الاقتصادي، بل قد تنتعش في فترات الكساد وهي الأنشطة التي يسميها الاقتصاديون الأنشطة المقاومة للكساد Recession-proof activities . ومن هذه الانشطة إنتاج الأدوية والمستلزمات الطبية، فالطلب عليها لا ينخفض في فترات الكساد، وكذلك الإنتاج الزراعي والصناعات الغذائية حيث لا يتأثر الطلب عليها بالكساد الاقتصادي.

ومن الأفكار التي ينظر فيها المسؤولون في ميشيجان ربط اقتصاد الولاية ببقية مناطق العالم بشكل أقوى، بحيث تستفيد من التبادل التجاري والاستثماري مع مناطق العالم التي لم تتأثر بالأزمة المالية العالمية والكساد الاقتصادي العالمي. فالصين والهند ودول مجلس التعاون ، على سبيل المثال، حافظت على نمو اقتصادها خلال هذه الأزمة. ولهذا فإن الولاية تفكر مستقبلاً في استخدام مثل هذه المعلومات في تسويق سلعها وخدماتها، وفرصها الاستثمارية في تلك المناطق.

ومثل هذه الشراكات الاقتصادية ستكون فرصاً مثمرة مفيدة للجانبين، فالمستثمرون الأجانب يمكنهم الاستفادة من فترة الكساد الاقتصادي في ولاية ميشيجان وما أدت إليه من انخفاض في تكلفة الإنتاج، وفي نفس الوقت فإن الولاية تستطيع التغلب على بعض آثار أزمتها الاقتصادية من خلال تلك الشراكات.