قد يبدو العنوان غريبا من الوهلة الأولى باعتبار أن الأنانية سلوك فردي يخالف في جوهره شروط العمل الجماعي فكيف يكون جماعيا؟ هذا صحيح ولكن كي تتضح الصورة لا بد من التذكير أن الأنانية هي صفة لعلاقة تربط الأنا بالآخر. عرفنا في التحليل السابق في المقالات السابقة أن الأنا والآخر أفراد لكن هذه ليست كل الصورة. الذات قد تكون جماعة والآخر قد يكون جماعة أيضا. هذا يعيدنا إلى سياسة تشكيل الهويات ولكن الأمر ليس غريبا على التجربة الحياتية المباشرة. في داخل الأسرة يتصرف الفرد كـ"أنا" ويرى باقي أفراد الأسرة كـ"آخرين". خارج الأسرة ينضم بقية أفراد الأسرة إلى مفهوم الأنا ويظهر الجيران هنا على أنهم آخرون. بدلا من العلاقة البسيطة: (أنا- أنت، أنا- هو) تحل العلاقة الأكثر تركيبا (نحن- أنتم، نحن- هم). بمعنى آخر الفرد ينضم إلى علاقات جماعية تشكّل له ذاتا جماعية بناء على علاقة دم، علاقة دينية، علاقة وطنية، علاقة هواية..الخ.

علاقة الذات والآخر أصبحت أكثر تركيبا ولكن يمكن لنا قراءتها باعتبارها علامة على حال العدالة في المجتمع وعلى مؤشر النمو الأخلاقي لدى أفراده. على سبيل المثال اليوم في أزمة الصراع الطائفي الديني في الشرق الأوسط نعلم أن قتال مجموعة من الناس لمجموعة أخرى بسبب اختلاف الهوية الطائفية هو علامة على خلل جذري في منظومة العدالة في هذا المجتمع وعلى أعلى مستويات الإشكال الأخلاقي في أي مجتمع. مهمة هذا المقال تكمن في محاولة متابعة السلوك الأناني حين ينتقل إلى العلاقات الجماعية. الفرد الأناني الذي تحدثنا عنه في المقالات السابقة لا يرى في الطرف المقابل له سوى أداة يحقق من خلالها أغراضه الشخصية. لا يعني هذا بالضرورة أن يكون الأناني لصّا أو معتديا مباشرا ولكن يكفي أنه يدور في رحى ذاته الخاصة ويغيب الآخر عنها. الآن نحاول أن ننتقل إلى العلاقات الجماعية ونرى طبيعة الأنانية الجماعية. بمعنى آخر كيف تنظر الجماعة للجماعة الأخرى. الجماعات تشمل التشكيلات الصغيرة في الأسرة والأصدقاء وتتسع للجماعات الثقافية والدينية والسياسية وصولا إلى الجماعة الإنسانية في مقابل جماعة الكائنات الحية الأخرى. في كثير من أفلام الخيال العلمي تحضر هذه الفكرة: لن يتوقف الصراع بين البشر إلا إذا واجهوا خطرا خارجيا كبيرا. غالبا يكون الخطر هذا كائنات فضائية لكن الشاهد أنه في هذه اللحظة تحديدا سيشعر جميع البشر أنهم (أنا) واحدة. سؤالنا هنا إذن عن علاقات الجماعات وعن مدى إمكان تفسير سلوكها من منظور الأنانية. من الأمثال الدارجة التي يمكن قراءتها على أساس أنها تصورات معيارية للعلاقات الجماعية مثل "أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب". هذا المثل يشرح صورتين مهمتين: الأولى آلية تركيب الهويات والثانية العلاقة التي يفترض أن تربط الأنا بالآخر. هذا مثل على علاقة الدم وإلا فإن الأمثلة أكثر على علاقات الدين والأيديولوجيا وغيرها. المثل هذا مهم لأنه يصف بشكل كبير ومختصر العلاقة الأنانية. العلاقة الأنانية تتحدد فيها القيم بناء على تعريف من هو الأنا ومن هو الآخر. الجماعة الأنانية كما الفرد الأناني مشغولة بذاتها ولا تحضر الجماعة الأخرى في تفكيرها إلا كموضوع للاستعمال.

مهم هنا التركيز على صورتين من المشهد السابق: الصورة الأولى أن الجماعة "التفكير الجماعي" تتصرف بشكل أناني مع الجماعة الأخرى في حال غياب قيم العدالة. الصورة الثانية أن الفرد ذاته يتصرف بشكل أناني مع الفرد المنتمي للجماعة الأخرى. مثلا: الأب الأناني حين يفكّر في علاقة طفله مع الأطفال الآخرين من منظور أناني. بمعنى أن الأطفال الآخرين يتحولون إلى مجرد موضوعات لطفله. هذا الأب لن يربي طفله على أن الطفل الآخر له الحقوق ذاتها ولكنه سيربيه على أن الهدف هو تحقيق مصالح طفله بغض النظر عما يحصل للطفل الآخر. على مستوى الجماعة، الجماعة الوطنية مثلا، تتصرف بشكل أناني حين لا تنظر إلى علاقتها مع الجماعات الأخرى بمنظور العدالة بل بمنظور الاستغلال. العلاقات الدولية اليوم يمكن النظر إليها من منظور الأنانية الجماعية. في ظل غياب قانون دولي يخضع له القوي قبل الضعيف فإن العلاقات الدولية لا تزال تتحرك وفق معايير القوة لا معايير العدل. هذا ما ينتج أخلاق الصراع بدلا من أخلاق العدل.

من الضروري توسيع مفهوم الأنانية ليشمل السلوك الجماعي كما يشمل السلوك الفردي. الآخر الجماعي أبعد بكثير من الآخر الفردي وبالتالي فإنه من السهولة غيابه عن منظورنا الأخلاقي. التركيبة الجماعية تعطي الفرد شعورا قويا بالانتماء وغالبا ما يتحقق هذا من خلال خلق علاقة عداوة أو اغتراب عن الفرد في الجماعات الأخرى. هذا يجعل من قبول استغلال ذلك الفرد أكبر بكثير وأبعد عن نظر العين الناقدة. في العلاقات مع غير السعوديين خصوصا من جماعة العمّال يحاول المصلحون حفظ حق العامل من خلال تذكير صاحب العمل بأن العامل مسلم. ما يقوله الناصح هنا هو أن العامل ينتمي لجماعة "الأنا" ولذا يجب مراعاة حقوقه. هذا الناصح لا يكسر السلوك الأناني بل يتوافق معه. لو قال إن هذا العامل إنسان فهو قد كسر سلوك الأنانية على الأقل داخل الجماعة البشرية.

الاختبار الحقيقي للقيم الأخلاقية هو موقفها من الآخر فردا وجماعة لأن الأنا لا تحتاج الأخلاق لكي تدافع عن نفسها. الأنا (الفردية والجماعية) مدفوعة بغريزة النفع الذاتي لتحصل على ما تريده. الآخر في المقابل، خصوصا الأضعف، لا يمكن أن نرى حقوقه إلا بعين أخلاقية عادلة. عين لديها القدرة على أن تخرج عن ذاتها وتدرك حقيقة وجود الآخرين حولها وأن وجودها هو جزء أساس من وجودهم.