العنوان أعلاه اقتباس من الفيلسوف الفرنسي الشهير "جان بول سارتر"، فالإنسان كائن اجتماعي لا يمكن له العيش من دون أفراد "آخرين"، سواء أكانوا في خانة الأصدقاء أو الأعداء، أو ربما "الأصدقاء" أحيانا، إلا أن السؤال المطروح هو: متى يكون "الآخرون" جحيما؟
وقبل الإجابة عن هذا التساؤل، لا بد من الإشارة إلى أن ما تشهده الحياة من اختلاف في القيم والثقافة والفكر من جهة، وصراع في الاقتصاد والسياسة والنفوذ من جهة أخرى؛ يعدّ أمرا طبيعيا وموجودا في كل الأماكن والأزمنة، لكن غير الطبيعي في الأمر هو حين ينشغل "الآخرون" بـ"الآخرين" من منطلق الانشغال فقط!
اشتهرت الحكايات الشعبية والأعمال الدرامية العربية بالصورة النمطية التي رسمت هذا "الفراغ" الكبير، ومن أمثلته أن الجارَة لا تجد ما تنشغل به سوى ما لدى جارتها، وأن التاجر في دكانه يجد ما يشغله عن نفسه بتصيد الأخبار للاطلاع على ما يفعله الآخرون، ولذلك فإن ظاهرة "الانشغال" بالآخرين تبرز بشكل أكبر لدى الذين يعانون من عقدة الفراغ فيسقطون ما لديهم على الآخرين، ولكن لن يجني الذين ينشغلون عن أنفسهم بالآخرين سوى الخسران، لأنهم يدورون في حلقة مفرغة تحرمهم من الإنتاج والإبداع والإحساس بأهمية الحياة، فهم باختصار ليس لديهم ما ينتجونه، وإن كان لديهم إنتاج ما فإن انشغالهم هذا لن يجعلهم يركزون على زيادة هذا الإنتاج والإبداع في أي أمر يقومون به.
وهذه الظاهرة، مع شديد الأسف، موجودة في المجتمعات العربية ولكنها موجودة في مجتمعنا السعودي بشكل ملحوظ، وقد أبرزت أنشطة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي هذه الظاهرة من خلال أنها أصبحت أداة لهذا الانشغال من جهة، وأيضا أداة للتنفيس عن الكبت من جهة أخرى، مما يدل على أن "الفراغ" الفردي والاجتماعي يؤثر سلبا على هذه الفئة من أفراد المجتمع في عدم المشاركة بفاعلية في التنمية وبناء الوطن والمجتمع بشكل عام.
صحيح أن التغيرات متسارعة جدا على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي في مجتمعنا، لكنها على مستوى الإنتاج المعرفي والمادي لا تقارن بغيرها في المجتمعات الأخرى، وهذا ما يدعو للقول إن انشغال أفراد المجتمع ببعضهم البعض عن أنفسهم وتطوير عوالمهم، أمر سلبي يجعل بعض الأفراد جحيما على غيرهم حين يحاولون إعاقتهم عن خلق عالمهم الخاص من جانب، وجحيما على أنفسهم من جانب بأنهم وقعوا في صنف الذين ليس لديهم شيء حقيقي يفعلونه، بما أضاعوه من وقت وجهد وفرص في سبيل قضايا هامشية، فيما كان الأحرى بهم الانشغال بما يفيد من خلال القضايا الحقيقية المهمة التي تخصهم سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي أو الوطني.
إن تأثير المدنية في الثقافة المجتمعية مرهون بالتغيير كطريقة للتفكير تجاه الذات وتجاه الآخرين، فلا يمكن تحقيق المدنية دون تغيير، فإشكالية عدم وجود الحب المجتمعي، والحرية، وتقبّل الاختلاف، والوازع الأخلاقي، والانشغال بما لدى الآخرين، أمر يكاد يكون غير موجود لدى المجتمعات الغربية، لأن الأساس الذي تقوم عليه ثقافة هذه المجتمعات اليوم هو "الفردانية" والحرية، مما يجعل الانشغال العبثي بما لدى الآخر فكرة منبوذة، فالحريات العامة تبعث على العمل الجاد والإنجاز من أجل إيجاد حد أدنى من الانشغال بالذات.
وفي ثقافتنا -في المقابل- ترتكز المعضلة حول استخدام هذا الانشغال لمحاربة الإنسان، مما يولّد إصرارا على تبنّي الهدم لا البناء، وذلك حين ينشغل "الآخرون" بتسخير إمكاناتهم للانقضاض على ما لدى "الآخرين" وينسون أنفسهم، وهذا مؤشر ثقافي وإنساني وحضاري له دلالته الخطيرة.