النزاعات كالبورصة، ترتفع فيها الأسهم وتنخفض. وبين ارتفاعها وهبوطها الكثير من الرابحين والخاسرين.
كذلك هي النزاعات التي نشاهد أهوالها في أكثر من مكان في وطننا العربي الكبير. ما نريد أن نقوله هو أن هناك من يستثمر هذه النزاعات دوليا وإقليميا وربما محليا، وعلينا أن نتابع نتائج المقاصة السياسية التي تنعقد على مدار الأيام وفي أكثر من مكان وبعناوين وموضوعات متعددة. وعلى سبيل المثال سنأخذ نتائج بورصة مؤتمر ميونخ للأمن والمتغيرات التي نتجت عنه. وسنحاول خلاله معرفة اتجاهات أسواق النزاعات.
عُقد مؤتمر ميونخ السنوي للأمن والدفاع في السادس من فبراير الحالي، وحضر هذا المؤتمر كل العالم تقريبا مباشرة أو بالواسطة وعلى أعلى المستويات. وكانت في المقدّمة طبعا قضية محاربة الإرهاب، خصوصا أن التحالف الدولي كان قد أصيب بعملية حرق الطيار معاذ الكساسبة، وكان علينا منذ البداية التعامل مع هذه الجريمة ببعدها الدولي وليس العربي أو الأردني، لأن الطيار سقط وهو في مهمة للتحالف الدولي العربي ضد الإرهاب، كما كان موضوع مفاوضات "الخمسة زائد واحد" مع إيران حول ملفها النووي. وأراد المستثمرون في الفوضى اليمنية -وبالتحديد إيران- أن يوحوا بامتلاكهم ورقة اليمن والملاحة الدولية في باب المندب، فكان إعلان الحوثي والإيحاء بأنه أصبح يملك الشرعية اليمنية. وكان ذلك في السادس من فبراير يوم افتتاح المؤتمر.
حضرت الأزمة الأوكرانية بقوة وكانت قد شهدت تطورات تشبه الحدث اليمني، ولكن على طريقة الدول الكبرى.
وأصبحت الأزمة الأوكرانية بالنسبة لروسيا سلاحا تهدد به أوروبا وقوتها الناعمة المفروضة على روسيا، ومعها أزمة انهيار سعر البترول. وهو السلاح الأكبر في محاربة الفوضى والتخريب والاستعداء بفائض أسعار النفط.
وكان لهذا تداعياته الخطيرة جدا على كل من روسيا وإيران وفنزويلا، وهي الدول الثلاث تحديدا التي تستثمر في أزمات الدول والمجتمعات على حساب لقمة عيش مجتمعاتها وتقدّمها وازدهارها.
طبعا هناك جلسات عامة ومتحدثون كبار يقدمون أطروحات في الأمن والدفاع، ويعترضون على سياسات ويؤيدون أخرى، وهذه متاحة عبر شاشات التلفزة والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.
ومن المفيد الاستماع إليها أو قراءتها. ليس لأهمية مضمونها بل من أجل أهمية أسلوبها والطريقة التي يقاربون فيها الموضوعات الحامية جدا بعقول باردة جدا. وذلك هو سر الاستمرار الذي هو معيار النجاح. والجلسات العامة أشبه بصالة المعروضات وفيها تعلن نتائج البورصة الأمنية والدفاعية ويعرف الجميع من ربح ومن خسر، وتبدأ الجلسات الجانبية واللقاءات الثنائية والبيع والشراء وتحدث خلافات وتفاهمات.
كانت نتائج هذا المؤتمر سريعة لا بل فورية. وكان من الضروري أن نسأل عن الزيارة المفاجئة والسريعة للأمين العام للأمم المتحدة إلى المملكة العربية السعودية ولقاء خادم الحرمين الشريفين ليعلن من المملكة عدم الاعتراف بالإعلان الحوثي، وتحميل الحوثيين وعلي عبدالله صالح المسؤولية المباشرة، وتأكيد شرعية
عبدربه منصور هادي، وإيفاد جمال بنعمر إلى اليمن، ودعوة جميع الأطراف اليمنية إلى الاجتماع. إن هذه الزيارة هي من نتائج مؤتمر ميونخ واجتماعاته الثنائية.
لذلك كان على الأمين العام أن يجيب باسم المجتمع الدولي مجتمعا عن الأسئلة السعودية حول الأزمة اليمنية.
بعد مؤتمر ميونخ سمعنا من إيران عن أهمية الاتفاق حول برنامجها النووي أكثر مما سمعناه خلال عشرة أعوام. بدءا من المرشد علي خامنئي الذي بدأ يصور الاتفاق انتصارا لإيران.. مرورا بروحاني وظريف، وكأنهم يقودون عملية ترويج للاتفاق الموعود. وهذا ما أكدته التحركات الإسرائيلية عسكريا باتجاه الجبهة الشمالية وسياسيا باتجاه واشنطن والحزب الجمهوري تحديدا. ونتنياهو يقول علنا إنه علينا تعطيل هذا الاتفاق.. ويلتقي بذلك مع صمت الحرس الإيراني وباقي المحافظين وفي مقدمتهم علي لاريجاني رئيس البرلمان.
اجتمعت اللجنة الرباعية حول فلسطين، والمكونة من كل من: الاتحاد الأوروبي، وروسيا، وأميركا، والأمم المتحدة. ويأتي هذا الاجتماع بعد انقطاع طويل، لأن المفوضة الأوروبية الجديدة موجيريني تعدّ حل الدولة الفلسطينية أولوية. عكس السيدة أشتون التي لم تهتم سوى بالمفاوضات الإيرانية.. والمعروف أن موجيريني تربطها علاقة مميزة مع الشعب الفلسطيني، وقد اختارت أن تكون أول زيارة لها بعد تعيينها إلى رام الله، وأعتقد أن موضوع الدولة الفلسطينية سيكون موضوع عام 2015 بامتياز، وسنشهد ولادة هذه الدولة بعد عذاب طويل ومرير.
كثيرة هي الحيويات التي انطلقت مع انتهاء مؤتمر ميونخ، ولكن أريد أن أتوقف عند بعض التطابق في الألفاظ لدى قطبَي السياسة الخارجية الأميركية. وزير الخارجية كيري ورئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس ماكيين. فقد لفتني حديث كيري عن بشار الأسد إذ قال عنه إنه جاذب للإرهاب. أما ماكين فقال إن الأسد كالمغناطيس بالنسبة للإرهاب أي جاذب له. وهذه أول مرة أسمع فيها تطابقا في التعبير بين كيري وماكين، وبالذات في الموضوع السوري، وهذا ما دفع الرئيس السوري إلى الخروج في مقابلة إعلامية تَهجّم فيها على السعودية، وادعى تنسيق التحالف الدولي معه عبر العراق وتكثيف هجومه على الجنوب بشكل غير مسبوق.
وأعتقد أنه كان من أكبر الخاسرين في مؤتمر ميونخ لأن إحراق الطيار الكساسبة على الأرض السورية يشبه إلى حد بعيد سقوط الموصل في يد "داعش" ونتائجها على المالكي. ولذلك بدأ البحث عن عبادي سوري.. وهذا ما دفع الحرس الثوري الإيراني إلى اختراع أسد جديد في اليمن.