يبدو أن اكتشاف الإنسان للرسم وممارسته له منذ عشرين ألف سنة، كان من أجل التعبير عن أفكاره وأحاسيسه، وترجمة مكونات ثقافته وبعض مما يطرأ على حياته اليومية، لكنه استثمر الرسم لاحقا للمحافظة على معالم حضارته البشرية من الاندثار، حيث استخدم الإنسان القديم الألوان الموجودة في الطبيعة، مستعينا بداية بالرسم من خلال دماء الحيوانات والطيور التي يصطادها، والفحم الذي تخلفه النار التي يشعلها، والطبشور الذي يستخرجه من الطمي والطين، وغيرها من الأشياء وجدت آثارها على جدران الكهوف.
بداية حاول الإنسان رسم بعض أعضائه بوضع المادة الملونة على يده وطباعتها على جدار الكهف، ثم بدأ بمحاولة محاكاة الطبيعة من حوله، فقد رسم الكائنات التي يألفها لتهدئ من روعه وتشعره بقليل من الأمان، كما رسم الكائنات التي تخيفه ويخشاها في محاولة منه الاقتراب منها، ليكسر شعوره بالخوف والرهبة، إلا أنه انتقل فيما بعد إلى مرحلة متقدمة في الرسم كي يخلد نفسه وماضيه وثقافته، وليشعر في داخله بالمتعة والجمال.
لوحة الموناليزا الشهيرة، التي يبلغ عمرها أكثر من 500 عام، هي إحدى أجمل وأهم الأعمال الفنية العالمية في مسيرة الإبداع البشري، صاغها الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافنشي بقالب مميز في عصر النهضة، استطاع من خلالها اقتناص أهم لحظات تاريخ الفن، واستخدم فيها تقنيات فنية لم تكن معروفة من قبل، ومنها البعد الثلاثي الذي تتميز به لوحته، مستفيدا من دراسته لعلم التشريح واهتمامه به وممارسته له.
في الموناليزا لا يُعرف بالضبط هل رسم دافنشي اللوحة للسيدة "جوكوندو" فعلا، أم أنه رسمها لنفسه ليخلد نفسه حين كان شابا بعد أن أنهكه المشيب، وأيا ما يكن الأمر فهو رسام مبدع تشهد القرون الخمسة الماضية أنه خلّف عملا خالدا ما زالت ثقافات العالم تتداوله بكثير من الإعجاب والتحليل والدراسة.
تحاول الموناليزا التي أبدعها دافنشي أن تقول شيئا مهما، هو أن الفنون جزء أساس في حياة وتاريخ الإنسان منذ عصور النشأة الأولى، ولا يمكن لمتأمل إلا ويجد الفنون والإبداع في كل زوايا الطبيعة، وكان هذا الأمر المحرك الأول للإنسان لمحاكاة هذه الطبيعة بأشكالها وألوانها واختلافات أحوالها كافة، من السماء إلى البحر ومن السهل إلى الجبل، إذ لم تكن الطبيعة يوما بعيدة عن الفنون، فهما أشبه بعينين لرأس واحدة، بل ربما أن الإنسان اخترع فنونا أخرى بعد اكتشافه للرسم والألوان، ومنها الخط، الذي هو في الأصل رسم الكلمات، وكثير من الحروف في مختلف اللغات والثقافات تحاكي مكونات كثيرة في الطبيعة، من حيوان وطير وأشجار، كما أن أصوات الطبيعة من حول الإنسان، كانت محفزا آخر له على الفن، إذ لم يغفل عن الإصغاء لأصوات الطبيعة، فاقتنص فيها أهمية الصوت لمعرفة الإنسان الفارق بين حدوده والعالم، فكانت الأصوات الأخرى من حوله، الماء والهواء والنار والشجر وبقية الكائنات، ملهمة له على استمرار اكتشاف الفنون، فبدأ بالمحاكاة، فكان الحداء ومن ثم كانت الموسيقي التي اقتبس أصواتها من أصوات الطبيعة، واخترع آلاتها من الطبيعة نفسها أيضا، ولذا لم يكن النداء بالنسبة للإنسان مقتصرا على الحاجة، بل تعداها إلى الرغبة في التعبير عن أحاسيسه بالصوتيات، وهنا استطاع ترتيب فوضى الأصوات لتكون أنغاما، وما زال البشر مهتمين بالفن وتطويره، مما يعني أن إلغاءه من ثقافات العالم سمة غير أصيلة في الإنسان، بل هي نزعة ما يسقطها البشر على الفنون.. ولا شيء آخر!